في مديح النصوص الناقصة

يا سادتي،
حين أتأمل اليوم مسيرتي في الكتابة، أبتسم لذلك الكاتب الشاب الذي كان يلهث خلف الضوء. كنتُ أكتب وفي بالي جمهور واسع، أراقب الأرقام، أعدّ الإعجابات، وأقيس النجاح بعدد الذين قرأوا لا بعدد الذين تأثروا. كان هاجسي أن أصل إلى الجميع، أن أثير إعجاب الناس جميعًا، كأن الكتابة مباراة للانتشار لا حوار داخلي مع الذات.
لكن السنوات تهذّبنا كما تهذّب النار الطين. ومع الوقت أدركت أن النص الحقيقي ليس ما يصفق له كثيرون، بل ما يترك أثرًا عميقًا في قلة قليلة، أو حتى في قارئ واحد. صرت أتعامل مع كل مقال، كل كتاب، كلوحة فنية أود أن أبلغ بها أقصى طاقتي، لا أقصى إعجاب الآخرين. غدوت أكتب وأنا مشغول بصدق التجربة لا بضجيج الصدى.
اكتشفت أن أعظم ما يمكن أن يحدث للكاتب هو أن يتحرر من خوفه من “رد الفعل”. تلك اللحظة التي يكتب فيها لأن الكتابة ضرورة داخلية، لا استعراض خارجي. أن يكتب لأنه يريد أن يفهم نفسه والعالم، لا لأن العالم يفهمه.
لقد صارت الكتابة بالنسبة لي رحلة تشبه السفر. حين أبدأ نصًا جديدًا أشعر كما لو أنني أركب طائرة إلى بلد لم أزره من قبل، لا أعرف ما الذي سأراه هناك، لكنني متأكد أن التجربة ستدهشني بطريقتها الخاصة. المهم أن أستمتع بالطريق، أن أرى أشياء جديدة بعينيّ أنا، أن أعيش تلك اللحظات كما لو كانت رحلة اكتشاف داخلي.
قد يسافر آخرون إلى الوجهة نفسها ويرون مناظر مختلفة، يلتقطون صورًا أخرى، يعيشون مغامرتهم بطريقتهم، لكن هذه رحلتي أنا، تخصّني وحدي، وسعادتي بها لا تُقاس بمقارنة مع الآخرين.
تذكّرت وأنا أكتب هذه السطور ما قالته إليزابيث جيلبرت في كتابها (السحر الكبير – الحياة الإبداعية المتحررة من الخوف)، حين تحدثت عن روايتها (توقيعه على الأشياء كلها). قالت إنها عملت على الرواية أربع سنوات دون كلل، منحتها جهدها وحبها وإخلاصها، ثم حين انتهت اكتشفت أنها لم تبنِ بيتًا كاملًا كما حلمت، بل “منزلًا مائلًا” جميلًا بما يكفي لأن تسكنه. لم تكن الرواية مثالية، لكنها كانت صادقة. وهكذا قبلت بها كما هي، دون محاولات إضافية لتقويم الجدران أو إصلاح السقف، لأن الجمال يكمن أحيانًا في الميل البسيط، في اللمسة الإنسانية الناقصة التي تفضح حضور صاحبها.
ذلك المقطع من جيلبرت يشبه ما وصلت إليه في تجربتي الخاصة. الكتابة بالنسبة لي لم تعد مشروعًا لكسب الإعجاب، بل مشروعًا للنجاة الداخلية. لا أكتب لأبني صرحًا خاليًا من العيوب، بل بيتًا من الكلمات يشبهني: غير مثالي، لكنه صادق ومُحبّ. إن النصوص التي تكتبها بأصابع مرتجفة أصدق من تلك التي تصقلها حتى تفقد روحها.
ولأن الكاتب حين يطارد الكمال يجرح نفسه، أدركت أن مرحلة الخطر تبدأ حين تفقد الكتابة لذّتها. حين تتحول من متعة إلى عبء، من اكتشاف إلى واجب. الكاتب الذي يكتب ليُرضي الجميع، يطارد ظلًّا لن يمسكه، وكل محاولة لإرضاء الجميع هي خطوة نحو كراهية الصنعة ذاتها.
اليوم أؤمن أن النصّ يجب أن يكون كائنًا حيًا، يحمل عيوبه كما يحمل سحره. يكفي أن يلمس قلب إنسان واحد، أن يواسي قارئًا في زاوية بعيدة، أن يجعل أحدهم يقول “لقد فهمني هذا النص”. هذه وحدها معجزة صغيرة تكفي لتبرير كل التعب.
لقد تصالحت مع فكرة أن أعمالي لن تُعجب الجميع، وأن كثيرين سيمرّون بجانبها دون أن يروها أصلًا. لكن هذا لا ينتقص من قيمتها. فالنص الذي وُلد من الصدق لا يحتاج تصفيقًا ليكون عظيمًا. يكفيه أنه موجود، أنه خرج إلى العالم وفيه أثر من نبض صاحبه.
وهكذا، حين أكتب الآن، لا ألاحق صدى الخارج بل أستمع إلى صدى الداخل. لا أبحث عن النص الكامل، بل عن النص الصادق. فالكتابة، كما فهمتها أخيرًا، ليست محاولة لبناء بيت مثالي على أرض مستقيمة، بل تشييد منزل مائل يسكنه القلب براحة.
بيت غير متناسق في عيون الناس، لكنه بيتك أنت، تعرف زواياه وتحبه كما هو.
وهذا وحده، يا أصدقائي، يكفي.




