ذكاء اصطناعيفكريقراءةكتابةكتبنشر
أخر الأخبار

الذكاء الاصطناعي: الشيطان الجديد!

في كل حقبة، تميل البشرية إلى البحث عن «شيطان» جديد تُحمّله أوزار تحوّلاتها. حين ظهرت الطباعة، قيل إنها ستفسد الذاكرة، وحين انتشرت الكهرباء قالوا عنها أنها «ستقتل الروح»، ثم جاء الإنترنت متَّهَمًا بإنهاء الحضارة ذاتها. واليوم يقف الذكاء الاصطناعي في الموقع نفسه، داخل قفص الاتهام، يواجه سلسلة من التهم الثقيلة؛ تبدأ بالسرقة، ولا تتوقف عند تهديد العقل البشري وتفريغه من معناه.

هذا النمط من الاتهام ليس استثناءً تاريخيًا، بل تكرارًا مألوفًا لكل تقنية تغيّر ميزان القوة بين الإنسان وأدواته.

الاتهام الأول: اللص الرقمي

من أكثر الاعتراضات شيوعًا القول إن الذكاء الاصطناعي «يسرق» نتاج البشر، بحجة أنه يتدرّب على ملايين الأعمال دون إذن أصحابها، ثم يعيد إنتاجها بتغييرات شكلية محدودة. هذا هو جوهر الاتهام. غير أن النظر المنهجي يفرض سؤالًا أبسط وأعمق: أليس هذا هو المسار ذاته الذي يتكوّن به التعلم البشري؟ لا كاتب يتشكّل في فراغ، ولا فنان يولد بلا أثر سابق. اللغة والأسلوب حصيلة قراءة طويلة، ومشاهدة متراكمة، واحتكاك ممتد بأعمال الآخرين.

الذكاء الاصطناعي لا يستنسخ نصوصًا محددة، بل يستخلص أنماطًا وعلاقات داخل اللغة نفسها. وهو، في ذلك، لا يختلف جوهريًا عن إنسان يكتب بعد أن مرّ على مئات أو آلاف الكتب؛ لا يُقال عنه إنه سرقها، بل إنه أتقن اللغة التي صاغته. ولهذا تميّز قوانين حقوق النشر بدقة بين الفكرة وأسلوب التعبير عنها، فتحمي الثاني، وتترك الأول مجالًا للتداول والتطوّر.

الاتهام الثاني: نتاج مزيف بلا روح

يتكرر الاتهام بأن الذكاء الاصطناعي لا ينتج إلا محتوى سطحيًا ونمطيًا، يفتقر إلى الروح الإنسانية والعمق. غير أن هذا الاعتراض يفترض أن الأصالة كيان ثابت يمكن قياسه بسهولة، بينما هي في الواقع مفهوم نسبي ومتغيّر. معظم الإبداع البشري ذاته يقوم على إعادة تركيب عناصر سابقة بطرق جديدة. شكسبير لم يبتدع قصصه من العدم، بل استند إلى حكايات ومصادر سبقت عصره، وبيكاسو لخّص هذه الحقيقة بعبارته الشهيرة: «الفنانون الجيدون ينسخون، والعظماء يسرقون».

من هنا، يبدو السؤال الأهم أقل رومانسية وأكثر عملية: ليس هل يمتلك الذكاء الاصطناعي «روحًا»، بل هل ما ينتجه ينجز غايته؟ هل النص يوضح فكرة، أو يحل إشكالًا، أو يلامس قارئه فيحقق القيمة المرجوة، بغضّ النظر عن الجهة التي أنتجته. أما السطحية، فهي ليست ظاهرة طارئة مع الآلة؛ فجزء كبير من الكتابة البشرية اليومية نمطي وسريع، وهذا لا يُعد خللًا بقدر ما هو طبيعة التعبير. العمق لا يُمنح تلقائيًا، بل يُستخرج بالسؤال الجيد والطلب الواعي. المدخلات السطحية تُنتج مخرجات سطحية، سواء كان من يكتب إنسانًا أم نظامًا اصطناعيًا ذكيًا.

الاتهام الثالث: إتلاف العقل البشري

يُقال إن الذكاء الاصطناعي يضعف القدرات العقلية ويقوّض التفكير النقدي، ويصنع جيلاً كسولًا فكريًا. غير أن هذا الاتهام ليس جديدًا في التاريخ؛ فكل تقنية مفصلية قوبلت بالريبة نفسها. الكتابة اتُّهمت يومًا بإفساد الذاكرة، والمطبعة أُدينت بتعميم السطحية، والإنترنت وُصف بأنه آلة دائمة لتشتيت الانتباه. ما حدث فعليًا لم يكن تلاشي الجهد العقلي، بل تغيّر شكله.

التقنيات لا تُلغي التفكير، بل تعيد تعريف المهارات المطلوبة. الذكاء الاصطناعي، على وجه الخصوص، لا يعمل دون جهد معرفي من نوع آخر: إما من خلال صياغة أسئلة دقيقة، أو قراءة نقدية للمخرجات، أو تحرير وتطوير واعٍ، ثم دمج إبداعي للنتائج في سياق أوسع. يا سادتي، إن المستخدم الفعّال للذكاء الاصطناعي لا يعمل أقل، بل يعمل في طبقة مختلفة من التفكير.

أما الكسل، فليس من صُنع الأداة. من يميل إلى التراخي سيجد دائمًا وسيلته، بوجود الذكاء الاصطناعي أو في غيابه. الأدوات لا تصنع العقول، لكنها تكشف طبيعتها.

الاتهام الرابع: انتحال وغش

يُنظَر إلى مستخدمي الذكاء الاصطناعي أحيانًا بوصفهم غشّاشين أو عديمي الإبداع، وكأنهم ينسبون لأنفسهم جهدًا لم يبذلوه. غير أن هذا الخلط يقوم على فهم مضطرب لمعنى الغش ومعنى الإبداع معًا. استخدام الأدوات المتاحة ليس تحايلاً، بل كفاءة. الرسّام الذي يستعمل فرشاة بدل أصابعه لا يُتَّهَم، والكاتب الذي يكتب على برنامج رقمي بدل القلم – وقبله الريشة – لا يُجرَّد من صفته الإبداعية.

الإبداع لا يسكن الأداة، بل في الرؤية التي تقودها، وفي الاختيار، والتوجيه، والتحرير، والقدرة على الدمج وصنع المعنى. استخدام الذكاء الاصطناعي بفعالية ليس عملية آلية، بل سلسلة من المهارات المعرفية الواضحة: من خلال فهم المشكلة، ثم صياغة الطلب بدقة، وبعدها قراءة النتائج نقديًا، ثم إعادة الصياغة والتطوير والتحسين.

كما أن التأليف، في جوهره، لا يقتصر على الكتابة الحرفية، بل يشمل التخطيط، واتخاذ القرارات الإبداعية، وبناء السياق النهائي للنص. بينما الغش هو انتحال عمل الآخرين وتقديمه بوصفه جهدًا شخصيًا، أما الاستفادة من أداة متاحة للجميع، فهي تعبير عن كفاءة استخدام الوسائل، لا عن غياب الإبداع.

الاتهام الخامس: تدمير التعليم

من أكثر الاتهامات تداولًا أن الذكاء الاصطناعي يسهّل الغش الأكاديمي ويقوّض النزاهة العلمية. غير أن الغش لم يولد مع هذه التقنية، بل صاحب التعليم منذ نشأته. ما تفعله التكنولوجيا عادة هو تغيير شكل المشكلة، لا خلقها من العدم.

صحيح أن الذكاء الاصطناعي يفرض تحدّيًا حقيقيًا، لكنه في الوقت ذاته يكشف هشاشة بعض النماذج التعليمية السائدة. حين يكون التقييم قائمًا على الحفظ، أو على مهام يمكن للآلة إنجازها بسهولة، يصبح التحايل مغريًا ومتاحًا. أما حين يتحوّل التعليم إلى تدريب على التفكير النقدي، وتحليل المسار لا النتيجة فقط، ومتابعة مشاريع تطبيقية طويلة، وإجراء امتحانات شفهية وحوارية، فإن مساحة الغش تضيق تلقائيًا.

الإشكال الجوهري، إذن، ليس في الأداة، بل في نظام تعليمي ما زال يكافئ ما يمكن أن تقوم به الآلة المتاحة بسهولة. الحل ليس المنع، بل التحديث: يجب إعادة توجيه التعليم نحو المهارات الإنسانية التي لا تُستعار جاهزة، مثل الفهم، والحكم، والربط، وبناء المعنى.

أما النزاهة العلمية، فهي في النهاية مسؤولية الباحث نفسه، فالأدوات لا تمتلك أخلاقًا، لكنها تضع المستخدم أمام اختبار أوضح لضميره المهني.

الاتهام السادس: تدمير سوق العمل

يُتداول القول إن الذكاء الاصطناعي يهدد الوظائف ويفتح الباب أمام بطالة جماعية. غير أن هذا القلق رافق كل تحوّل تكنولوجي كبير. الثورات الصناعية ألغت وظائف قائمة، لكنها في المقابل أنشأت قطاعات كاملة لم تكن موجودة من قبل. الأتمتة قلّصت بعض الأدوار، لكنها وسّعت الاقتصاد بدل أن تُفرغه.

الأرجح أن الذكاء الاصطناعي سيسلك المسار نفسه: لن يُنهي سوق العمل، بل سيعيد تشكيله. ستتراجع الأدوار الروتينية القابلة للتكرار، وستبرز في المقابل أدوار جديدة تقوم على الإشراف، والتحرير، وبناء الرؤية، واتخاذ القرار، وإضافة اللمسة الإنسانية التي لا يمكن لآلة أن تنتجها.

القلق في هذا السياق مشروع، ويستدعي سياسات انتقال عادلة تحمي الأفراد وتدعم إعادة التأهيل. لكن قراءة التاريخ تشير بوضوح إلى أن المجتمعات لا تتوقف عند فقدان وظيفة، بل تعيد تعريف القيمة التي يقدمها الإنسان.

المحترفون الحقيقيون لن ينشغلوا بشيطنة الذكاء الاصطناعي أو التنافس معه، بل سيستخدمونه لرفع مستوى أدائهم، وتوسيع نطاق أثرهم، والعمل في مساحات لم تكن متاحة من قبل.

الاتهام السابع: كذّاب لا يُعتمد عليه

تُوجَّه إلى الذكاء الاصطناعي اتهامات بنشر معلومات خاطئة و«هلوسة» وقائع غير موجودة. هذا الاعتراض صحيح، وهو قيد حقيقي لا يجوز التقليل من شأنه. غير أن المشكلة، في أصلها، ليست حكرًا على هذه الأداة؛ فالمصادر البشرية نفسها تزخر بالأخطاء، والتفسيرات المغلوطة، والثقة الزائفة. الفارق أن الذكاء الاصطناعي قد يقدّم الخطأ بلهجة واثقة، الأمر الذي يجعله أكثر إقناعًا لمن لا يتحقق.

لكن التعامل الرشيد مع هذه المعضلة لا يكون برفض الأداة، بل بإدراك حدودها. الاستخدام المسؤول يقتضي التحقق من المعلومات الحساسة، والمطالبة بالمصادر، وتفعيل التفكير النقدي، وعدم الاعتماد الأعمى على المخرجات. وكما تعلّمنا ألّا نصدّق كل ما نقرؤه على الإنترنت لمجرد أنه مكتوب، ينبغي التعامل مع ما ينتجه الذكاء الاصطناعي بالمنهج نفسه.

الوعي بالقيود ومواطن الضعف ليس عيبًا في الأداة، بل شرط أساسي للاستفادة منها دون الوقوع في وهم اليقين. المستخدم الواعي لا يبحث عن بديل للتفكير، بل عن أداة تعمل بتوجيهه وتحت رقابته.

الاتهام الثامن: أداة للهيمنة الثقافية

يُنتقد الذكاء الاصطناعي كذلك بحجة أنه يحمل تحيزات من قاموا ببرمجته، وأنه يعكس منظورًا ثقافيًا غربيًا مهيمنًا. هذا الاعتراض في جوهره صحيح؛ فغلبة البيانات الإنجليزية والغربية في مراحل التدريب تترك أثرها. غير أن هذا الأثر ليس قدرًا نهائيًا، بل نتيجة تقنية قابلة للفهم والمعالجة.

الفارق الجوهري أن تحيزات الذكاء الاصطناعي يمكن رصدها وتحليلها وتحسينها بصورة منهجية، بينما التحيزات البشرية غالبًا ما تكون غير واعية، ومتشابكة مع الهوية، وأكثر مقاومة للتصحيح. ومع تطور النماذج، يتحسن فهمها للسياقات الثقافية المتعددة، وتزداد الجهود لتغذيتها بمحتوى متنوع لغويًا وثقافيًا.

من هنا، لا يبدو الرفض موضوعيًا. المشاركة النقدية أكثر جدوى: من خلال إثراء هذه الأدوات بمحتوى عربي، وتقديم نماذج وسياقات محلية، والتنبيه إلى مواضع الانحياز عند ظهورها. الذكاء الاصطناعي، في النهاية، مرآة للبيانات التي نضعها فيه؛ وكلما اتسعت هذه البيانات وتنوّعت، ضاقت مساحة التحيز.

الاتهام التاسع: كارثة بيئية

يُوجَّه إلى الذكاء الاصطناعي نقدٌ متكرر بوصفه مستهلكًا مفرطًا للطاقة ومضرًّا بالبيئة. هذا الاعتراض يستند إلى واقع جزئي صحيح؛ فتدريب النماذج الكبيرة يتطلب موارد طاقية عالية. غير أن تقييم الأثر البيئي لا يكتمل دون وضعه في سياقه الأوسع.

بعد اكتمال التدريب، يصبح استخدام النموذج أقل استهلاكًا للطاقة بكثير مقارنة بمرحلة التطوير، كما أن الكلفة البيئية لا تُقاس بمعزل عن الفوائد المحتملة. إذا أسهم الذكاء الاصطناعي في تسريع البحث العلمي، أو تحسين كفاءة استهلاك الطاقة في قطاعات صناعية مختلفة، أو تقليل الحاجة إلى السفر والنقل، فإن صافي أثره البيئي قد يكون إيجابيًا لا سلبيًا.

المقاربة الواقعية لا تتمثل في إيقاف التطور التقني، بل في توجيهه: عبر تطوير نماذج أكثر كفاءة، والاعتماد على مصادر طاقة متجددة، وتحسين البنية التحتية الحاسوبية. الاستدامة هنا ليست نقيض الابتكار، بل شرط نضجه.

ختامًا

نعود، في النهاية، إلى السؤال الجوهري: هل الذكاء الاصطناعي هو شيطان هذا العصر؟!

إن الإجابة لا تتعلق بالتقنية بقدر ما تتعلق باختياراتنا في استخدامها. يمكن للذكاء الاصطناعي  أن يتحول إلى أداة للكسل والغش، كما يمكن أن يكون منصة للإبداع، والكفاءة، وتوسيع القدرات البشرية. الخيار ليس تقنيًا بحتًا، بل أخلاقي ومعرفي.

الاتهامات التسع التي مررنا بها تكشف طيفًا واسعًا من المواقف: بعضها مخاوف مشروعة تستحق نقاشًا جادًا وتنظيمًا واعيًا، وبعضها الآخر نابع من مبالغة أو سوء فهم لطبيعة التكنولوجيا وحدودها. المشكلة لا تبدأ عند الأداة، بل عند الطريقة التي نختار بها تفسيرها والتعامل معها.

الشيطان الحقيقي في هذه القصة ليس الذكاء الاصطناعي، بل الميل إلى التبسيط المريح بدل التفكير النقدي المتعب. الشيطنة تصنع خصومًا وهميين، وتستنزف الجهد في معارك جانبية، بينما الفهم العميق يفتح باب التعامل الرشيد.

الحكمة، في هذا السياق، لا تكمن في الرفض ولا في التقديس، بل في الاستخدام الواعي: أن نعرف ما الذي نريده من الأداة، وما الذي لا ينبغي أن نُسلمه لها، وأن نبقى نحن في موقع القرار لا ردّ الفعل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى