أدبترجمةقراءةكتبنشر

عجوز في فاس تحرس سر الأزمنة!

أعترف: نشرتُ هذه الرواية، لكنني لم أقرأها حقاً… حتى اليوم.

والآن، وأنا أقلّب صفحات “أبناء فاس: مغامرة عبر الزمن” لكاي هاردي كامبل، أدركت أنني كنتُ أمام كنز ولم أفتش به جيدًا.

تبدأ الرواية بصوت لن تتوقعه أبداً: جني مؤمن، اسمه مصطفى، مُكلّف بحراسة شيء في قلب فاس. شيء خطير. شيء إذا اختل توازنه، قد ينهار النظام الكوني نفسه. جني متنكّر في هيئة امرأة عجوز من فاس، يراقب، يحرس، ويروي لنا ما لا يراه البشر. هذا الافتتاح وحده يكفي لجعلك تنسى كل ما قرأته عن المغامرات والغرائبية.

الرواية لا تسير على خط واحد، بل تقفز ببراعة نادرة بين أصوات وأزمنة مختلفة: فاس اليوم حيث طلاب أمريكيون في رياض مغربي قديم تحوّل إلى فندق، يعيشون حياتهم العادية غافلين تماماً عما يكمن تحت أقدامهم. فاس في القرن الرابع عشر الميلادي حيث حياة مختلفة تماماً، أصوات من الماضي، أسرار مدفونة، وخطر لم يكن أحد يتوقعه. وبين هذا وذاك، عين الجني مصطفى الذي يربط كل شيء، ويعود بين فصل وآخر ليذكّرنا أن ما نقرأه ليس مجرد قصص منفصلة، بل خيوط واحدة في نسيج أكبر وأخطر.

هذا التناوب ليس عبثاً، بل هندسة سردية محكمة. كل صوت يضيف سؤالاً جديداً، وكل فصل يقودك أعمق نحو لغز لن تتوقع حله.

هذه ليست رواية عن “السفر عبر الزمن” بالمعنى التقليدي. الأمر أعقد وأخطر من ذلك بكثير. ماذا لو كان هناك شيء – أو شخص – في المكان الخطأ من الزمن؟ ماذا لو اختلط الماضي بالحاضر بطريقة لا رجعة فيها؟ ماذا لو كان هناك من يحاول منع هذه الكارثة… ومن يحاول إحداثها؟ الكاتبة لا تكتفي بطرح هذه الأسئلة، بل تجعلك تعيشها صفحة بعد صفحة.

كاي هاردي كامبل لم تزر فاس فقط، بل عاشتها حتى النخاع. كل زقاق، كل رائحة، كل همسة في المدينة القديمة موجودة هنا بدقة مذهلة. لكن العبقرية الحقيقية أنها جعلت من هذه المدينة الحقيقية مركزاً لشيء أكبر بكثير – نقطة التقاء لا يمكن أن توجد في أي مكان آخر. فاس هنا ليست ديكوراً، بل شخصية حية لها نبضها وأسرارها وذاكرتها الممتدة عبر القرون. مدينة تحفظ ما لا يجب أن يُنسى، وتخفي ما لا يجب أن يُكتشف.

أما المترجم محمد كحال فقد واجه تحدياً هائلاً: كيف تنقل صوت جني بالعربية؟ كيف تنتقل بسلاسة بين لغات وأزمنة وعوالم مختلفة دون أن يشعر القارئ بأي انقطاع؟ نجح في ذلك ببراعة نادرة. الترجمة هنا ليست مجرد نقل كلمات، بل إعادة خلق لعوالم كاملة، كل عالم له نبرته ولغته الخاصة، دون أن يفقد النص روحه الأصلية.

الرواية تمزج ببراعة استثنائية بين دقة البحث التاريخي وعالم الجن والأساطير المحلية. ليست واقعية سحرية على طريقة أمريكا اللاتينية، بل واقعية سحرية مغربية أصيلة، حيث الجن جزء طبيعي من النسيج الثقافي، وحيث فاس نفسها أسطورة حية تتنفس.

إذا كنت تبحث عن مغامرة حقيقية تحترم ذكاءك، إذا سئمت الحكايات المكررة والنهايات المتوقعة، إذا أردت أن تفهم فاس من الداخل دون كتب التاريخ الجافة، إذا كنت تبحث عن تشويق ذكي يجمع بين العمق الثقافي والإثارة الحقيقية – فهذه الرواية لك.

نصيحة أخيرة: لا تقرأ هذه الرواية مستعجلاً. دع كل صوت يأخذك إلى عالمه، ولا تحاول تخمين ما سيحدث – صدقني، لن تنجح. وحين تنتهي من الصفحة الأخيرة، ستنظر إلى فاس – وإلى الزمن نفسه – بعيون مختلفة تماماً.


“أبناء فاس: مغامرة عبر الزمن”
كاي هاردي كامبل | ترجمة: محمد كحال
دار شفق للنشر | سبتمبر 2025

للشباب والكبار
متوفرة في المكتبات وعبر:

https://www.darshafaq.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى