الصدق الذي يضلّل أكثر من الكذب!

هل تعلم أن شرب كوب من عصير البرتقال الطازج صباحًا يعزز المناعة ويمنحك طاقة فورية؟
معلومة تبدو سليمة ومغرية بما يكفي لتتحول إلى عادة يومية لدى كثيرين. لكن ما لا يُقال عادة هو أن هذا الكوب ذاته يحتوي كمية سكر تماثل مشروبًا غازيًا صغيرًا مليء بالسعرات الحرارية، وأن المواظبة عليه ترفع احتمالات زيادة الوزن وزيادة مقاومة الإنسولين على المدى الطويل. الجزء الأول حقيقة، أما الجزء الثاني فهو الحقيقة التي لم يرغبوا في كشفها.
وهنا يبدأ كل شيء: لم تكذب المعلومة، لكنها لم تُكمل الطريق.
تأملت طويلًا في هذا النوع من الحقائق الناقصة، ولاحظت أن أخطر ما فيها ليس ما تقوله، بل ما تسمح لك بأن تتخيله. نحن لا نقف أمام كذبة واضحة يمكن تفنيدها، بل أمام نص مفتوح يدعونا لإكماله. ومع مرور الوقت، لم يعد التضليل يحتاج إلى اختراع القصص أو صناعة الأوهام، يكفيه أن يقدّم النصف الأول من الحقيقة فقط، ويترك بقية القصة لعقول المتلقين.
هنا تتجلى القاعدة الأكثر إرباكًا في هذا العصر المجنون:
قل ما يكفي ليبدو كلامك صادقًا، ثم اصمت عند النقطة الحاسمة. ستتكفّل عقول المتلقين بترميم الفراغ، وسيُشيّد كل واحد منهم وهمه الخاص، معتقدًا أنه وصل إليه بمحض تفكيره. لست بحاجة إلى الكذب حين يتولّى المتلقي بنفسه مهمة اختراع البقية.
هذه ليست حيلة لغوية، بل آلية إدراكية موثّقة؛ فالعقل يميل إلى سدّ الفجوات، وقد يُفضّل قصة ناقصة يكمّلها بنفسه على قصة مكتملة تُفرض عليه.
الأمثلة من حولنا أكثر مما نتصور.
تحتفي التقارير الرسمية أحيانًا بانخفاض نسبة البطالة، لكنها لا تذكر أن معظم الوظائف الجديدة مؤقتة أو منخفضة الأجر. المعلومة الأولى صحيحة، لكنها تعزلك عن فهم الواقع. نقرأ أن منتجًا ما «خالٍ من السكر» فنشتريه بثقة، ولا يخبرنا أحد أنه مليء بمحليات تغيّر كيمياء الجوع في أجسامنا. نسمع أن دواءً ما «نجح مع 75٪ من المرضى»، دون أن يخبرنا أحد أن نسبة غير قليلة تعرضت لمضاعفات خطيرة. لم يقل أحد كذبة، لكنه أخفى ما يكفي لتوليد استنتاج مُزيَّف.
بعد سنوات من ملاحظة هذا النمط، أدركت أن أنصاف الحقائق ليست معلومة ناقصة فحسب، بل منهج تفكير كامل. إنّها لا تُقنعك بالقوة، بل تُغريك بالتصديق. تمنحك شعورًا بالمعرفة، بينما تهدم قدرتك على الفهم. وتلك المفارقة هي أخطر ما فيها: نحن نقاوم الأكاذيب الجلية، لكننا لا نقاوم ما نظنه «استنتاجنا الخاص».
ومن العبث التعامل مع هذه الظاهرة أخلاقيًا فقط، فهي في جوهرها مشكلة معرفية. ثمة مغالطتان منطقيتان تلخصانها بدقة: مغالطة الانتقاء الانتقائي للبيانات، حيث تُعرض الأدلة المواتية ويُخفى ما ينقضها، ومغالطة الأدلة المحجوبة، حيث تكون المعلومة صحيحة لكنها تُنتزع من سياقها أو من شرطها الحاسم. هاتان المغالطتان لا تُهاجمان المنطق، بل تخونانه من الداخل، عبر تقديم الحقيقة نفسها بشكل يجعلها تقول عكس ما تعنيه.
ولمن يريد أن يتتبع هذه الحيل في الإعلام والخطابات العامة والسياسات الصحية والاقتصادية، فإن كتاب «رجل القش» الصادر عن دار شفق للنشر والتوزيع كتاب مهم فهو يستعرض أكثر من خمسين مغالطة منطقية وأكثر من ثلاثين انحيازًا إدراكيًا تعمل مثل المسامير الخفية في بناء هذا العالم من التضليل والخداع وأنصاف الحقائق.
مع الوقت، تغيرت طريقة نظري. لم أعد أسأل: «هل هذه المعلومة صحيحة؟»، فالصحة لم تعد الضامن.
صار السؤال الأهم: هل هذه المعلومة كاملة؟
من لا يطرح هذا السؤال، سيظل يسير في طريق مُضاء بنصف مصابيح، قد يرى ما أمامه، لكنه لا يرى ما يحيط به.




