سورة الكهف: دعوة لكسر روتين الطقس الديني واستعادة نور الإيمان
في حديثِ رسولِ اللهِ ﷺ: “مَنْ قَرَأَ سورةَ الكهفِ في يومِ الجمعةِ أَضَاءَ لهُ من النُّورِ ما بينَ الجمعتَيْن”، نقفُ أمامَ مُفارقةٍ عَميقةٍ: كيفَ تحوَّلتْ هذهِ الإشراقةُ النورانيَّةُ، عندَ كثيرٍ منَّا، إلى طقسٍ روتينيٍّ خافتٍ؟ كيفَ أصبحتْ هذهِ الرحلةُ الروحيَّةُ العَميقةُ مُجرَّدَ عادةٍ أسبوعيَّةٍ تُؤدَّى بآليَّةٍ، كَمَن يقرأُ نصًّا غريبًا لا يمَسُّ شَغافَ قلبِهِ؟
في خِضَمِّ حياتِنا المُعاصِرةِ، نقَعُ في مُفارقةٍ مؤلِمةٍ: نُحوِّلُ المُقدَّسَ إلى روتينٍ، والعَميقَ إلى سَطحيٍّ، والنُّورَ إلى ظُلْمَةٍ. نقرأُ الكهفَ كما نقرأُ تقريرًا عابرًا؛ نَمُرُّ على آياتِها مُرورَ الكِرامِ، وكأنَّ قلوبَنا مُغلَّفةٌ بغِشاءٍ سَميكٍ يمنعُ تسرُّبَ النُّورِ إليها.
هذا التَّحوُّلُ من العُمقِ إلى السَّطحِ ليسَ مُجرَّدَ خسارةٍ رُوحيَّةٍ، بل هو انعكاسٌ لأزمةٍ وجوديَّةٍ أعمقَ: كيفَ نفقدُ القُدرةَ على التَّأمُّلِ في عصرِ السُّرعةِ؟ كيفَ تتحوَّلُ العبادةُ من مِعراجٍ روحيٍّ إلى عادةٍ آليَّةٍ؟
في قِصصِ السُّورةِ الأربعِ، نرى أنفسَنا في مَرايا مُتعدِّدةٍ، كُلٌّ منها يُعكسُ جانبًا من صراعِنا الوجوديِّ. أصحابُ الكهفِ يُمثِّلون صراعَ الهُويَّةِ في زمنِ الاغترابِ الرُّوحيِّ. كم منَّا يشعرُ بالغُربةِ في عالمٍ مادِّيٍّ طاغٍ؟ كم منَّا يحتاجُ إلى “كهفٍ” يحمي إيمانَهُ من طوفانِ الشُّكوكِ والشَّهَواتِ؟
صاحبُ الجَنَّتينِ يُجسِّدُ مأساةَ الإنسانِ المُعاصِرِ في علاقتِهِ بالمادَّةِ. كيفَ نَغرَقُ في بحرِ الاستهلاكِ ونفقدُ بوصلةَ الرُّوحِ؟ كيفَ تتحوَّلُ النِّعمُ من وسيلةٍ للشُّكرِ إلى سببٍ للكبرِ؟
قِصَّةُ موسى والخضرِ تكشِفُ أزمةَ المعرفةِ في عصرِ المعلوماتِ. كيفَ نَخلِطُ بينَ المعرفةِ والحِكمةِ؟ كيفَ نَتَواضَعُ أمامَ ما لا نَعلَمُ، في زمنٍ ظننَّا فيهِ أنَّنا نَعرفُ كُلَّ شيءٍ؟
ذو القَرنَيْنِ يَطرحُ سؤالَ القُوَّةِ والسُّلطةِ: كيفَ نُوازِنُ بينَ القُدرةِ والعَدلِ؟ بينَ القُوَّةِ والرَّحمةِ؟
الخُروجُ من سِجنِ الرُّوتينِ يبدأُ بإدراكِ المأساةِ: كيفَ حوَّلنا النُّورَ إلى ظُلْمَةٍ؟ كيفَ أفرغنا العبادةَ من روحِها؟ كيفَ فقدنا القُدرةَ على التَّأمُّلِ العَميقِ؟
سورةُ الكهفِ ليستْ مُجرَّدَ نصٍّ للقِراءةِ، بل هي دعوةٌ للتحرُّرِ من قُيودِ الرُّوتينِ، للغوصِ في أعماقِ الذاتِ، لاكتشافِ المعاني المُختبِئةِ خلفَ حُجبِ العادةِ. إنَّها رِحلةٌ من الظَّاهرِ إلى الباطنِ، من القُشورِ إلى اللُّبِّ، ومن الحرفِ إلى الرُّوحِ.
النُّورُ بينَ الجمعتَيْنِ ليسَ ضوءَاً خارجيًّا، بل هو إشراقةٌ داخليَّةٌ تُنيرُ ظُلُماتِ النَّفسِ. هو لحظةُ وعيٍ نكتشفُ فيها كم أصبحنا بعيدينَ عن جَوهرِ العبادةِ، وكم فقدنا القُدرةَ على التَّأمُّلِ العَميقِ في معاني الوجودِ.
في كُلِّ جُمعةٍ، تَدعونا السُّورةُ للخُروجِ من كهفِ الرُّوتينِ إلى فَضاءِ التَّأمُّلِ الرَّحبِ. تَدعونا لنعيدَ اكتشافَ المعنى المَفقودِ، لنُحيي القلبَ المُثقلَ برُكامِ العاداتِ، ونستعيدَ نُورَ التَّدبُّرِ الذي خَبَا تحتَ رمادِ الرُّوتينِ.
إنَّها دعوةٌ مُستمرَّةٌ للتحرُّرِ، للتَّجدُّدِ، وللعَودةِ إلى النُّورِ الأوَّلِ. فهل نَستجيبُ؟