
كان الصباح رمادياً في قرية لا هيغيرا البوليفية. الضباب يتسلل بين جبال الأنديز مثل شبح يعرف طريقه. في ساحة المدرسة التي حولها الجيش إلى ثكنة عسكرية، وقف الجنود في صف غير منتظم. بعضهم يدخن السجائر الرخيصة، والبعض الآخر يحدق في الأرض الموحلة. كان الليل طويلاً، مليئاً بالهمس عن السجين في الزنزانة، الرجل الذي حير العالم.
“يقولون إنه لا يموت،” قال جندي شاب لم يتجاوز العشرين.
ضحك رفيقه ضحكة متوترة، كمن يحاول إخفاء خوفه في ليلة عاصفة.
في زنزانته في المدرسة، جلس السجين على الأرض الباردة. سترته الخضراء المتسخة تشهد على أشهر من حرب العصابات في الجبال، وذقنه الكثة تخفي ملامح وجهه الشهير. لم يكن في الزنزانة سرير، فقط الجدران الباردة والسقف الخشبي المتآكل الذي تسرب منه خيط من ضوء الفجر. كان متعبًا، لكن عينيه ظلتا تحملان النظرة التي أرعبت الطغاة.
تذكر جبال سييرا مايسترا في كوبا، كيف كان المطر الاستوائي يتساقط على أوراق قصب السكر، كيف كان الرفاق يسيرون في الظلام، يتهامسون عن مستقبل أمريكا اللاتينية. تذكر طعم القهوة الكوبية بعد معارك سانتا كلارا، تذكر رفاقه في النضال. تذكر أسماء الذين سقطوا من أجل حلم تحرير القارة.
صوت الأقدام العسكرية على الأرض الترابية يقترب.
دخل الضابط فيليكس رودريغيز، ضابط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كان وجهه شاحبًا كورقة. لم يكن يتوقع أن الرجل الذي سيُعدم سيبدو وكأنه ذاهب إلى نزهة صباحية.
“حان الوقت، كوماندانتي.”
نهض السجين ببطء، مستقيم الظهر. لم يضعوا قيوداً في يديه. لم يكن هناك حاجة لها. كان يعرف أن هذه اللحظة قادمة منذ بدأ رحلته الثورية.
في الساحة، كان هواء جبال الأنديز قارساً، يحمل رائحة الأعشاب البرية. لم يكن مثل نسيم هافانا الدافئ، ولا مثل رطوبة غابات الكونغو. كان هواء جبال الأنديز، حيث تموت الأحلام أو تولد من جديد.
عندما رأوه يخرج، ساد صمت ثقيل. عند المطبخ، وقف الطباخ العجوز متجمداً، القهوة السوداء تفور في القدر خلفه. كان قد أطعم في حياته مئات السجناء والجنود، لكنه لم ير قط سجيناً يمشي نحو موته كما لو كان يمشي نحو الحرية. نظر إليه نظرة طويلة، كما ينظر المرء إلى أسطورة تمشي على الأرض.
وقف أمام الجدار الحجري. لم يجلس على الكرسي الخشبي القديم في الزاوية. لم يعرضوا عليه عصابة عينين، ولم يطلبها. أراد أن يرى وجوههم، أن يتذكروا عينيه.
رفع الضابط رودريغيز يده المرتعشة، ثم سأل:
“هل من كلمات أخيرة، كوماندانتي؟”
ابتسم السجين ابتسامته الشهيرة، تلك التي عرفها العالم في صور الثورة، وقال:
“أطلق النار. اعلم أنك تصوب على فكرة، والأفكار لا تموت.“
ترددت يدا الجندي المكلف بالتنفيذ. رأى في عيني السجين كل ما قرأه عنه، كل ما سمعه في أغاني الثورة وحكاياتها.
مرت لحظة ثقيلة. ريح الأنديز تحرك الأعشاب البرية. نسر يحلق في السماء الزرقاء.
“أطلقوا!”
دوت الطلقات في وادي لا هيغيرا، تردد صداها بين الجبال.
حين سقط، لم يكن هناك خوف في عينيه. لم تكن هناك رعشة. فقط سلام عميق، كمن يعرف أن موته سيكون بداية.
يروى الفلاحون في قرى بوليفيا، حتى اليوم لأطفالهم قصة الثائر الأرجنتيني الذي حارب من أجل حرية أمريكا اللاتينية. في الليالي الباردة، حين تعصف الريح في جبال الأنديز، يقولون إنهم يسمعون صدى كلماته الأخيرة:
“¡Hasta la victoria siempre!” – “حتى النصر دائماً!”
وفي شوارع أمريكا اللاتينية، على جدران المدن، على صدور الشباب، ظل وجهه يظهر، يذكر العالم أن هناك أشياء أقوى من الموت.
كان اسمه تشي غيفارا، والثورة لا تموت.