الاتزان الحياتيالذكاء العاطفيالوعي الذاتيفكرينفسي

الخيال: قدرة مفقودة يمكن استعادتها

حين كنتَ طفلاً، لم تكن تحتاج إلى إذن لتتخيل. كانت العلبة الفارغة سفينة، والعصا سيفاً، والغرفة مملكة بأكملها. لم يكن أحد يعلّمك ذلك، ولم تكن تسأل نفسك إن كانت الفكرة “منطقية” قبل أن تلعب بها. ثم، في مكان ما على الطريق، تغيّر شيء.

تشير دراسات التفكير التباعدي إلى أن الأطفال يمتلكون قدرة عالية على توليد أفكار متعددة دون قيود، وأن هذه القدرة تتراجع تدريجياً مع دخولهم النظم التعليمية التقليدية. في المدرسة، تُعطى الأولوية لضبط السلوك والانتباه، ويُفسَّر الشرود والتخيل بوصفهما قصوراً لا قدرة. يتلقى الطفل، عاماً بعد عام، إشارات صغيرة لكنها متراكمة: أن خياله أقل قيمة من انتباهه، وأن الإجابة الصحيحة أهم من الجواب المختلف.

الدماغ يتكيف مع ما يُطلب منه. يُنمّي ما يُكافأ عليه، ويُهمل ما لا يُستخدم. وهكذا يصل كثير من البالغين إلى مرحلة يجدون فيها أن الخيال الحر — الذي كان طبيعياً في طفولتهم — صار يحتاج إلى جهد واعٍ لاستعادته.

لكن الخيال ليس رفاهية ولا ترفاً طفولياً. هو نقطة الانطلاق التي تبدأ منها الابتكارات. كل اختراع كبير — من الطائرة إلى الهاتف — كان في البداية مجرد فكرة بدت غريبة أو مستحيلة، قبل أن تخضع للتجريب والتطوير والانضباط العلمي. الفكرة وحدها لا تبني شيئاً، لكن بدونها لا يبدأ شيء.

ثمة عقبة أخرى، أكثر خفاءً من المدرسة: الصوت الداخلي.

كثير من الناس يحملون في رؤوسهم ناقداً دائماً، يسبقهم إلى كل فكرة جديدة ليخبرهم بأنها لن تنجح، أو أنهم ليسوا مؤهلين، أو أن الوقت قد فات. هذا ما يسميه العلاج المعرفي السلوكي “الأفكار التلقائية السلبية”: أنماط من التفكير تعلّمها الإنسان عبر سنوات من التربية والتجربة، حتى صارت تبدو وكأنها الحقيقة.

لكنها ليست الحقيقة. هي مجرد عادة ذهنية.

والأمر نفسه ينطبق على الظروف. كم مرة قلتَ لنفسك: “لا أستطيع لأن ظروفي لا تسمح”؟ علم النفس يميّز هنا تمييزاً دقيقاً بين الحدث والتفسير. الحدث معطى لا يمكن تغييره، أما التفسير — القصة التي نرويها لأنفسنا عن الحدث — فهو مرن، ويمكن مراجعته. حين تتغير القصة، تتغير معها الخيارات الممكنة.

نقطة القوة الحقيقية في الإنسان ليست أنه لا يخاف، بل أنه يستطيع أن يتعلم. كل مهارة تملكها الآن — من المشي إلى الكتابة إلى عملك الحالي — بدأت بمحاولات فاشلة ومساعدة من آخرين وإحباطات صغيرة، ثم ترسخت مع الوقت. لا يوجد سبب يمنع هذا من الانطباق على مهارات أخرى: إدارة الوقت، التخطيط المالي، الإبداع، بل وحتى تغيير المسار المهني بالكامل.

فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي الذي نجا من معسكرات الاعتقال النازية، لاحظ أن الإنسان يستطيع — حتى في أقسى الظروف — أن يحتفظ بحرية داخلية: حرية اختيار موقفه مما يحدث له. هذه ليست فلسفة تأملية، بل ملاحظة تدعمها اليوم عقود من أبحاث المرونة النفسية.

حين تحاول شيئاً جديداً، سيظهر القلق. سيعلو الصوت الناقد. ستشعر بأنك لستَ مستعداً. هذا طبيعي، بل هو علامة صحية: دماغك يواجه شيئاً غير مألوف، ويتصرف كما صُمّم ليتصرف. المفتاح ألا تخلط بين الشعور بعدم الارتياح وبين عدم القدرة. مع الممارسة، يتراجع الخوف وتتقدم المهارة.

التغيير الحقيقي يبدأ بإدراك بسيط لكنه جوهري: أنك مسؤول عن قراراتك، وأن جزءاً كبيراً من ترددك ليس بسبب العالم الخارجي، بل بسبب القصص التي ترويها لنفسك عنه.

الرغبة وحدها لا تكفي، لكنها ما يُشعل السلوك. والسلوك — لا النوايا الطيبة — هو ما يصنع النتائج.

ذلك الطفل الذي كان يحوّل العلبة الفارغة إلى سفينة لم يختفِ. هو ما زال هناك، ينتظر أن تتوقف عن الاستئذان.​​​​​​​​​​​​​​​​

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى