أدبالاتزان الفكريفكريكتب

موبي ديك في زمن الإشعارات

تبدو علاقة القارئ الحديث بالروايات الكلاسيكية علاقة متوترة. ليست قطيعة كاملة، وليست وصالاً صريحاً. إنها منطقة رمادية يتقدّم فيها القارئ خطوة بدافع الفضول، ثم يتراجع خطوتين حين يصطدم بإيقاعٍ لا يشبه السرعة التي اعتاد عليها في يومه.

تظهر هذه الفجوة بوضوح حين نضع رواية مثل «موبي ديك» في مواجهة ذائقة القارئ المعاصر. كثيرون يسمعون عنها بوصفها من “أعمدة الأدب الأمريكي”، لكنهم يكتشفون مع الصفحات الأولى أن العمل لا يقدّم نفسه كحكاية بحرية سهلة. الرواية تبني عالمها ببطء، تفتح صفحات من التأمل الفلسفي، تتوقف عند تفاصيل مهنة صيد الحيتان، وتتحرك بين طبقات رمزية تحتاج إلى نَفَس طويل. من منظور القارئ الذي يبحث عن تسارع الأحداث وتدفّق السرد، هذه ليست “متعة فورية”.

والمفارقة أن «موبي ديك» نفسها لم تكن عملاً شعبياً حتى في زمنها؛ فشلت تجارياً عند صدورها عام 1851، ولم يُعد اكتشافها إلا بعد عقود. الأمر ذاته ينطبق على أعمال أخرى نعدّها اليوم كلاسيكيات: «يوليسيس» لجيمس جويس لم تُكتب يوماً لتكون قراءة سهلة، و«الإخوة كارامازوف» بحواراتها الفلسفية المتشعّبة كانت تتطلب قارئاً خاصاً حتى في القرن التاسع عشر. هذه الأعمال لم تفقد سهولتها مع الزمن، بل لم تكن سهلة أصلاً. كانت تكتب لغاية مختلفة عن “المتعة الفورية”، حتى بمعايير عصرها.

لكن ما تغيّر فعلاً هو السياق الذي نقرأ فيه. المشهد الأدبي اليوم يتجه نحو نصوص قصيرة، لغة مكثّفة، أحداث تتسارع منذ الصفحة الأولى، وزمن قراءة لا يتجاوز ساعات. ليس لأن القرّاء أقل صبراً بالضرورة، بل لأن نمط الحياة نفسه تغيّر: الهاتف في اليد، الإشعارات تتدفق، والمحتوى المعرفي والترفيهي يزاحم بعضه بعضاً. الرواية التي تتطلب عزلة طويلة وذهنية متأنية تجد نفسها خارج إيقاع السوق، حتى لو كانت ذات قيمة أدبية عالية.

لا يعني هذا أن الكلاسيكيات فقدت قيمتها. لكنها لم تعد تُقرأ بالمنطق الذي تُقرأ به الروايات التجارية الحديثة. القارئ اليوم يبحث عن الدهشة السريعة، بينما هذه الأعمال تقدّم عمقاً يحتاج إلى التمهّل والقبول بالاستطرادات والتأملات الجانبية.

السؤال إذن ليس: هل هذه الروايات جيدة؟
بل: هل الذائقة الحديثة مهيّأة لاستقبال هذا الإيقاع؟

هنا يتضح أن معايير “المتعة” ليست ثابتة. هي متحركة، تتشكل وفق زمنها ووتيرته. والقارئ الذي ينتمي لثقافة السرعة قد يرى في «موبي ديك» عملاً متحفيًا أكثر منه نصاً للقراءة اليومية. بينما القارئ الذي يمنح الرواية وقتها سيجد أنها تفتح أفقاً مختلفاً، أفقاً لا يتكشّف إلا حين نسمح للبطء بأن يفعل فعله.

يبقى السؤال الذي قد لا تملك له إجابة واحدة: هل الحل في تكييف هذه الأعمال -اختصارها، تبسيطها، تحويلها إلى صيغ جديدة- أم في تكييف أنفسنا، ومنح القراءة البطيئة مساحة في حياة لم تعد تتسامح مع البطء؟

ربما الجواب ليس في أحدهما، بل في قبول أن بعض الأعمال ستظل تنتظر قارئها المناسب، في الزمن المناسب.​​​​​​​​​​​​​​​​

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى