أدبالاتزان الحياتيفكريفلسفةكتابة

لماذا أكتب؟

لماذا أكتب؟

أكتب لأنني أفكر.

وأفكر لأنني أعيش.

لكنني لا أكتفي بأن أعيش كما يعيش العابرون. أريد أن أُدرك، أن أفهم، أن أُمسك بلحظة الوجود الهاربة، وأصوغها بلغة لا تفنى.

الكتابة بالنسبة لي ليست هواية ولا مهنة. هي ليست وسيلة للتعبير، بل هي التعبير ذاته وقد تجلّى. هي انعكاس فكري، ومرآة ذاتي حين تصمت المرآة الزجاجية عن قول الحقيقة. هي اللحظة التي يصبح فيها التفكير عملاً فنيًا، والشعور مشروعًا معرفيًا، والانتباه طقسًا من طقوس الانكشاف.

أكتب لأن التفكير هو متعتي الخفية. أمارسه كما يمارس المتصوف خلوته، كما يمارس الرسام تأمله، كما يمارس الطفل دهشته الأولى. إنني لا أكتب لأُخبر الآخرين بما أفكر، بل لأكتشف نفسي وما الذي أفكر فيه. فالكتابة ليست امتدادًا للفكرة، بل ولادتها الحقيقية. وربما لهذا كتبت سوزان سونتاج في واحدة من لحظات التجلي:

“الكتابة هي أعمق طريقة للتفكير.”

كل فكرة لا تُكتب، تبقى مشوهة، غائمة، مترددة على أطراف الذهن. الكتابة وحدها تهذبها، تُهديها شكلًا، تمنحها جسدًا تمشي به في العالم. أكتب لأعطي أفكاري حقها في أن تُولد ولادة كاملة، لا جنينًا في رحم الذهن.

أكتب لأن الأفكار في رأسي ليست أثاثًا يُرتب، بل نجومًا تحتاج إلى سماء. وحين أكتب، أنسج تلك السماء على الورق. الفكرة وحدها لا تكفيني. أريد أن ألمسها، أن أختبرها، أن أجادلها، أن أخضعها لاختبار المعنى.

وليس ذلك إلا بالكتابة.

أكتب لأنني حين أكتب، أنصت.

لا لصوتي وحده، بل لصوت العالم كما يمر من خلالي.

أصير مرآة للعابر، ومرسى للقلق، وميناء للتيه.

الكتابة تجعلني إنسانًا أكثر، لأنني بها أكون أنا وأكثر منّي في ذات اللحظة. بها أكون الفرد، والكل، والمستقبِل، والمرسل، والسؤال، والجواب المؤقت.

الكتابة هي مملكتي التي لا ينازعني عليها أحد.

هي صومعتي وسفري، قيدي وعبوري، ضعفي وانتصاري.

فيها أستطيع أن أكون كما لا أستطيع أن أكون في الواقع.

فيها أنزع الأقنعة، لا لأظهر وجهي فقط، بل لأصنع منه مرآة يراها القارئ، فيجد وجهه هو.

أكتب لأنني لا أؤمن بالصمت إلا كمهارة تمهّد للانفجار الجميل للكلمة.

أكتب لأن الحياة، دون كتابة، تبدو لي كأنها حادثة لا يُروى عنها شيء.

أما الكتابة، فهي الشاهد، والمرافعة، والرواية التي تنقذ الحدث من الضياع.

أكتب لأتذكر أنني حيّ.

أكتب لأُنقذ لحظة من طوفان النسيان.

أكتب لأقاوم الفناء: لا بالقوة، بل بالوعي.

الكتابة ليست ترفًا، بل مقاومة.

مقاومة للسطحية، للزيف، وللركض المجنون في الحياة دون تأمل.

أكتب كي أبطئ الزمن، كي أستنطقه، كي أسأله: من أنا؟ ومن نحن؟ ومن نكون؟ وإلى أين نمضي؟

إنني لا أبحث عن إجابة نهائية، لكنني أكتب كي أطرح السؤال كما يجب.

أكتب لأن التفكير هو وطني، ولأن الكتابة هي خريطته الوحيدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى