أخلاقيالاتزان الاجتماعيالاتزان الحياتيالاتزان الماليالوعي الذاتيروحانيفكريفلسفةمالينفسي

خُضرةٌ حُلوة… ولكن! (عن المال حين يُعطي، وحين يُأخذ… عن النفوس حين ترضى، وحين تطمع.)

جلس حكيم بن حزام رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان رجلًا له مكانته، وسابقته، وتجربته في الجاهلية والإسلام.

مدّ يده، وسأل النبي. فأعطاه.

ثم مدّها ثانية، فأعطاه.

ثم مدّها ثالثة… فأعطاه.

لكن في الثالثة، لم يمرّ الأمر كما مرّ في السابقتين، فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزرع في قلبه وصيةً لا تُنسى.

فقال له:

“يا حكيمُ، إنّ هذا المالَ خضِرةٌ حُلوة، فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ، بُورك له فيه، ومن أخذه بإشرافِ نفسٍ، لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى.”

(رواه البخاري ومسلم)

سمع حكيمٌ، وتأثّر.

كان قلبه حاضرًا، ونفسه مهيّأة لتلقّي النور.

فقال في حضرة الحبيب:

“يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لا أرزأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا.”

كلمةٌ من رجلٍ عرف أن الغِنى الحقيقي ليس في كثرة المال، بل في سخاوة النفس.

وحين مات النبي، وجاء أبو بكر، ثم عمر، يعرضان عليه من عطايا بيت المال، كان يرفض.

ويُقال إن عمر وقف يومًا على المنبر وقال للناس:

“أشهدكم أني أعرض على حكيم حقّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.”

ومات حكيم على هذا العهد، لم يأخذ شيئًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فما معنى “سخاوة النفس”؟

هي أن تأخذ المال وأنت غير متعلّق به، لا تتطلع إليه، ولا تتذلل في طلبه.

هي أن تعلم أن المال وسيلة، لا غاية… وأن الرضا هو الكنز الذي لا يفنى.

أن لا تشتهي ما في يد غيرك، ولا تحزن إن فاتك نصيب.

فمن كانت هذه حاله، بُورك له في رزقه، وإن قلّ.

أما إشراف النفس، فطمعٌ خفي، وتعلّق داخلي، يجعل صاحبه لا يشبع، ولو مُلئَت يداه.

تمامًا كما وصفه النبي:

“كالذي يأكل ولا يشبع”.

اليد العليا ليست يدًا مليئة بالمال فقط…

إنها اليد التي تُعطي ولا تأخذ،

التي ترفع غيرها، ولا تنتظر أن تُرفع.

التي ترى في العطاء سيادة، وفي الكفاف عزة.

نعيش في زمن تُقاس فيه القيم بالأرقام، ويُقاس الإنسان بما يملك لا بما هو عليه.

ولكن هذا الحديث يعيد ترتيب المقاييس.

يقول لك: المال في يدك لا يضرّ، إن لم يملأ قلبك.

ويقول: الرزق الحقيقي أن ترضى، أن تكون سيد نفسك لا عبدًا لشهواتك.

بلغة اليوم: ليس النجاح أن تكسب كثيرًا، بل أن لا تبيع نفسك لأجل ما تكسب.

إنها وصية خالدة لكل من يُعطي أو يُؤخذ منه.

يا من بيدك المال: لا تغرُّك زينته، وازرع في يدك سخاوةً توصلها لمن يحتاج.

ويا من تطلب المال: اطلبه بعزّة، لا بإشراف نفس. فإن جاءك، فخذه بحمدٍ ورضًا.

وإن لم يأتِ، فارفع رأسك، فرب السماء لا يضيّع من توكل عليه.

ليس كل من امتلأت يده غنيًّا،

وليس من خلت يده فقيرًا…

إنما الغِنى ما استقرّ في القلب،

والبركة ما هبطت على النفس.

وهكذا تعلّم حكيم، وهكذا يجب أن نُعلّم أنفسنا في زمنٍ كثرت فيه الأيدي… وقلّت فيه النفوس السخية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى