كنوز المدن والكتب: متعة الاستكشاف المتجدد
في زيارتنا الأولى لمدينة جديدة، نجد أنفسنا أسرى خريطة ذهنية نحاول رسمها بسرعة. نتنقل بين المعالم والشوارع، يسكننا هاجس ألا نضيع أو نفوت شيئاً مهماً. هذا الانشغال، رغم ضرورته، يحجب عنا كنزاً أثمن: متعة الاستكشاف العفوي، وسحر التجربة التي تغمر الحواس حين نتجول بقلب مفتوح وعين متأملة.
“لأنك لا تعبر نفس النهر مرتين” – هذه المقولة للفيلسوف اليوناني هيراقليطس تعكس طبيعة تجربتنا مع المدن والكتب. المدينة في زيارتنا الأولى تشبه كتاباً مغلقاً نقرأ عنوانه فقط. نراها من خلف حجاب التوجس والترقب، غير قادرين على سبر أغوارها الحقيقية. لكن حين نعود إليها، نجد أنفسنا أحراراً من قيود الزيارة الأولى. عندها فقط نبدأ في استكشاف تلك التفاصيل الدقيقة التي غفلنا عنها، ونرى المدينة بعين أكثر عمقاً وقلب أكثر سكينة.
“ليس المهم أن نصل، بل أن نستمتع بالرحلة” – هذه المقولة الشهيرة تؤكد أن التجربة هي الأهم، سواء في السفر أو القراءة. تجربة السفر الأولى لمدينة جديدة تماثل بشكل لافت قراءتنا الأولى لكتاب جديد. نجد أنفسنا مأسورين بتتبع خيوط الحبكة، متلهفين لمعرفة النهاية. ننغمس في السرد لدرجة قد تجعلنا نتجاوز جمال اللغة وعمق الأفكار. وكما أن الزيارة الأولى للمدينة لا تكشف كل أسرارها، فإن القراءة الأولى للكتاب لا تفصح عن كل كنوزه الدفينة.
القراءة الأولى ليست سوى بوابة لعالم الكتاب. نلتقط فيها الخطوط العريضة للأفكار وللشخصيات ومسار الأحداث. لكن المتعة الحقيقية والفهم العميق يتجليان في القراءات اللاحقة. حينها، وعندما نألف “مدينة” الكتاب، نستطيع أن نتذوق جمال اللغة، ونستكشف طبقات المعاني، ونفك شفرة الرموز التي مرت علينا دون أن نلحظها في المرة الأولى.
الكتب، شأنها شأن المدن، تحتاج إلى زيارات متكررة لنكتشف كنوزها الحقيقية. فإذا أردنا أن نغوص في أعماق تجربة القراءة، علينا ألا نكتفي بالمرة الأولى. هي مجرد استطلاع، والغوص الحقيقي يكمن في المرات التالية، حيث نكتشف عوالم جديدة في صفحات ظننا أننا عرفناها.
وهكذا، تتحول كل زيارة للمدينة وكل قراءة للكتاب إلى فرصة لتجربة متجددة، تكشف لنا عن أبعاد خفية لم نلمحها في المرة الأولى. التكرار هنا ليس إعادة آلية، بل هو غوص أعمق في جوهر التجربة، واكتشاف مستمر لطبقات المعنى والجمال.