لي مشاهدة متكررة في معارض الكتب والمكتبات. سأشرككم بها.
كثير من الناس -وأكاد أقول أغلبهم- عندما يأتون لشراء الكتب، فإنهم يفعلون ذلك وفق توصية من طرف آخر، بمعنى أنهم يأتون سعيا وراء كتاب نصحهم به شخص آخر، إما بشكل مباشر، أو عبر توصيات المشاهير أو مواقع الانترنت والرسائل التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي. قلة هم أولئك الذين يختارون كتبا مختلفة عن السائد الموصى به، كتبا يتصفحونها بأنفسهم فتعجبهم أو تثير اهتمامهم فيقررون اقتناءها وقراءتها، ليتحملوا بعدها نتيجة ذلك القرار!نعم المسألة هي بهذه الصورة الجادة فعلا بالنسبة لي.
اختيار كتاب ما، دون تدخل أو توصية من شخص آخر، هو قرار معتبر.
وأظنه قرارا ثقيلا على كثير من الناس، لدرجة أنهم لا يغامرون باتخاذه بمفردهم أبدا، فيفضلون البقاء في زحام الآخرين، على طريقة (حشر مع الناس عيد)!
سأزيد وأضع الأمر على الصورة “الحادة” التالية.
أن تتصفح عشرات أو ربما مئات الكتب في معرض الكتاب، ثم تقرر أن تختار كتابا ما دونا عن غيره، هو إقرار منك بأنك قد وجدت هذا الكتاب أجدر من غيره بالاختيار والقراءة. أنت هنا وكأنك تضع عقلك، أو لأهون المسألة قليلا على قبولكم وأقول بأنك هنا تضع قدرتك الفكرية على الفرز والاختيار على ميزان التقييم، وبالتالي حينما يتبين لاحقا بأن ذلك الكتاب، الذي هو اختيارك وقرارك وقطعة من عقلك وذائقتك، كتاب رديء أو غير جيد، وقد تعجز عن إكماله بالرغم من كل محاولاتك، فكأنك تعترف حينها بأنك قد فشلت في الاختيار، بل ربما أبعد من ذلك، كأنك ستقول بأنك لا تحسن الفرز والاختيار الفكري، وأن قدراتك “القرائية” ضعيفة!
موقف محرج أمام النفس! أليس كذلك؟
تماما، لذلك يندفع الناس نحو التوصيات. ليس لأنها خيارات آمنة، وأن الكتب الموصى بها دوما جيدة، وليس لأن ذاك الذي أوصى، كائنا من كان، يعرف جودة ما يوصي به. لا أبدا، وإنما لأن اقتناء الكتب بناء على توصيات الآخرين سيلقي بالملامة تلقائيا عليهم. فهم من فشلوا في الاختيار، وقصارى الأمر أن يقول الواحد فينا، إنه كتاب سيء لا يستحق التوصيات. نعم قد ينالنا شيء من الملامة لاتباعنا التوصية دون تمحيص، ولكنها ستظل أخف بكثير على النفس من أن نظهر أمام أنفسنا في مظهر سيء!
التغلب على هذا الأمر ليس بالهين، ويتطلب من الراغب حقا قدرا من الشجاعة وقدرين من الجهد. نعم، يتطلب شجاعة بأن يغامر المرء في الوقوع لمرات ومرات في اختيارات سيئة، وهذا سيحصل ويتكرر حتما في البدايات، وربما سيستمر لوقت ليس بالقصير، ويتطلب كذلك جهدا معتبرا في تعلم البحث عن الكتب الجيدة في المكتبات ومعارض الكتب وحسن انتقائها وممارسة الأمر والصبر على ثقله حتى اتقانه.
هل الأمر ثقيل حقا؟ ربما ليس عند محترفيه، ولكنه ثقيل بالطبع على من يبدأ به. أن تنتقي كتابا يعني أن تمسك به فتقرأ عنوانه واسم مؤلفه وتراجع فهرسه وتقرأ كل مقدمته ربما، وشيئا من محتواه لتتذوق موضوعه وتتعرف على حسن أسلوبه وسبكه. وهذا يعني أنك ستقضي معه بضع دقائق تختبره فيها. هذا مجهود عقلي لا يستسيغ ولا يستسهل كل من يدخل مكتبة أو معرض الكتاب أن يبذله. لو قام الشخص بذلك مع كل كتاب جديد يجده أمامه في المكتبة أو معرض الكتاب لما تجاوز الرف الأول إلا بعد مرور ساعة، ولما خرج من الجناح الأول إلى الذي يليه إلا بعد ساعات.
ألم أقل لكم بأن الأمر ثقيل وليس بالهين؟!
لكن.. عندما تعرفون وتدركون حجم الجواهر والكنوز البعيدة عن التوصيات الشائعة وعن الأحاديث السائدة، ستعرفون كم يستحق الأمر أن نتعلمه ونتقنه ونمارسه، فنتجرأ بذلك على اختيار الكتاب المختلف، لنسير في درب مختلف، فنفكر في موضوع مختلف وبشكل مختلف، لنصبح على شكل متميز مختلف!