معارض الكتب… حين تختلط الأجندات وتغيب العدالة!

لسنا بحاجة إلى التذكير بأن معارض الكتب، حين نشأت، لم تُصمَّم لتكون سوقًا تجارية عابرة، بل جاءت لتكون مواسم ثقافية تحتفي بالكتاب والمؤلفين وتحتضن الناشرين وتقرّب القارئ من عوالم المعرفة. جاءت بوصفها منصّات ثقافية وطنية تُثري المشهد الفكري، وتُعلي من شأن الكلمة، وتدفع بعجلة القراءة في المجتمعات. هذا هو الأصل.
لكن ما نراه اليوم، وما نعيشه نحن كدور نشر مستقلة، أمرٌ مختلف.
أصبح بعض هذه المعارض يُدار بعقلية تجارية بحتة، حيث تتقدّم الحسابات المالية على القيم الثقافية، وتُصبح الرسوم والأرباح والمزايدات حاضرة أكثر من حضور الكتاب نفسه.
نحن لا نعترض على أن يغطي المعرض تكاليفه. ولا ننكر أن إدارة معرض دولي كبير تتطلب موارد. لكننا نرفض أن تتحول الرسالة الثقافية إلى هامش، وأن يُزاح الكاتب والناشر من مركز الصورة ليحل محلهما تاجر المساحة والموقع.
إن اختلاط الأجندة الثقافية بالأجندة الربحية، دون وازعٍ أو ميزان، هو ما يجعل المعارض تنحرف عن غايتها، وتُصبح بيئة طاردة لا جاذبة.
سوق الكتاب العربي يعاني أصلًا، فالتوزيع محدود، والقرصنة متفشية، والطباعة تزداد تكلفة. ونحن – كناشرين – نكابد كل ذلك بمحبة وإيمان برسالة الكلمة، لكننا حين نُفاجأ برسوم مشاركة مرتفعة، وبتكاليف ضريبية لا تُحتمل، وبشروط تنظيمية تُثقل كاهلنا، تصبح المشاركة في المعرض مجازفة خاسرة.
والأسوأ من كل ذلك، أن تُدار بعض المعارض بعقلية غير شفافة. فتُمنح المساحات والمواقع المميزة لبعض الدور دون غيرها دون معايير واضحة، وتتوجه الدعوم المالية الرسمية إلى دور محسوبة، بينما تُترك بقية الدور تكافح وحدها، مما يؤدي إلى أن يحتاج الناشر – للأسف – إلى “واسطة” ليحصل على مساحة ملائمة وموقع جيد وحظ من الدعم المالي الرسمي.
هذه ليست أجواء ثقافية. هذه بيئة تختنق بها الأخلاق، وتُطفأ فيها العدالة، ويُداس فيها الحُلم الثقافي تحت قدم المصالح الضيقة.
من غير المعقول يا سادتي أن تُدار هذه المعارض الكبرى – التي تمثل الوجه الثقافي للبلد المنظم أمام العالم – بعقلية الموظف الإداري البعيد عن الحقل. نحن بحاجة إلى مثقفين، وإلى ناشرين حقيقيين، وإلى كتّابٍ يعرفون وجع الكتاب، ويتفهمون معاناة صناعة النشر.
نحتاج إلى لجان مستقلة تُشرِف على هذه الفعاليات، وتتبع معايير معلنة، وتُقيّم الأداء بشفافية.
إذا لم نُصلح هذا المسار، سنفقد شيئًا فشيئًا معنى “المعرض” ذاته، وسيستمر سقوط الدور المستقلة، الواحدة تلو الأخرى، كما يحدث الآن، وسيتراجع حضور الكتاب العربي – لا لجودةٍ ناقصة – بل لعدالةٍ غائبة.
أخيرًا…
لسنا نكتب هذا بوصفنا شاكين، بل محبّين. إن دار شفق – كغيرها من دور النشر الجادّة – ما زالت تحاول أن تبقى واقفة وسط الرياح. لكننا نوقن أن ما لا يُواجه، لا يُصلح. ونؤمن أن هذه الأحاديث يجب أن تُقال، بصوت عالٍ، لأن الصمت تواطؤ.
الكتاب لا يصرخ. لكن الناشرين، والكتّاب، والمثقفين… ينبغي أن يفعلوا.