أدبالاتزان الحياتيفكريقراءةكتب

القراءة: التفاعل الكيميائي الذي لا يُعاد مرتين

اقرأ ما يشبهك، ما يُطرب قلبك، ما يربت على أسئلتك أو يثيرها. ودع عنك صخب التقييمات، وبريق الترشيحات، ووهج الجوائز.

فما يبدو لك نصيحة عابرة هو في حقيقته دعوة للتحرر من هيمنة الذائقة العامة، ومن عبودية “الموضة الأدبية” التي تصنعها قوائم الأكثر مبيعاً، والمراجعات النقدية، وطقوس الجوائز السنوية. لقد أصبحت القراءة في عصرنا طقساً اجتماعياً يُمارس للانتماء؛ لا رحلة داخلية نابعة من الوجدان.

نقرأ ما قيل لنا إن علينا قراءته، لا ما نُحس أن بيننا وبينه خيطاً خفياً. وبهذا نفقد اللحظة السحرية، وتبهت العلاقة الحميمة مع الكتب… تلك العلاقة التي تُشبه الحب الأول: غامضة، شخصية، لا تُبرَّر ولا تطلب موافقة من أحد.

والسبب في فرادة هذه العلاقة أن القراءة لا تنقل لك معلومات فحسب، بل تخلق تفاعلاً داخلياً فريداً. كل كتاب هو مادة خام، لكن الناتج النهائي يتكوّن حين يذوب في روحك: في جراحك التي لم تلتئم بعد، في ذكريات طفولتك، في مزاجك حين تمسك الصفحة، في أسئلتك التي تسكنك بصمت، وفي الأحلام الصغيرة التي ترفض أن تموت.

لهذا… لا يقرأ اثنان كتاباً واحداً بالطريقة نفسها. ولا يقرؤه الشخص نفسه مرتين بالشعور ذاته؛ تماماً كما لا يمر النهر نفسه مرتين تحت الجسر.

وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى الأحكام المطلقة على الكتب؟ حين يقول أحدهم: “هذا كتاب سيئ”، فهو لا يصف الكتاب، بل يصف نفسه في تلك اللحظة: مزاجه، استعداده، خلفيته، وربما حتى جرحاً قديماً حرّكته الكلمات. هذه شهادة ذاتية، لا حكم نهائي.

لكننا – ويا للأسف – نتعامل مع هذه الأحكام وكأنها تعريفات مقدسة للنص، لا مجرد انعكاسات لتجربة عابرة. وهكذا نخسر كتاباً كان سيغيّرنا، لو أننا أنصتنا إليه بدلاً من أن نُصغي لضجيج الآراء من حولنا.

فمن قال إن الكتاب الجيد يجب أن يُعجب الجميع؟ بعض الكتب كالمرآة المشروخة: تُريك جزءاً وتخفي آخر. وبعضها كمفتاح لا يفتح إلا قفلاً بعينه، في توقيت بعينه. قد تجد كنزاً في كتاب لا يعرفه أحد، وقد يصدك كتاب شهير ببساطة لأنك لست في اللحظة المناسبة لاحتوائه.

هذا لا يُنقص من النص، ولا منك؛ بل يؤكد أن العلاقة بين القارئ والكتاب ليست علاقة جودة مطلقة، بل توقيت وتناغم. والمشكلة أننا نعمم تجاربنا الفردية، فنجعل إعجابنا بكتاب سبباً لإلزام الناس به، أو نفورنا منه ذريعة لإعدامه.

ربما كنت متعباً فبدت الصفحات ثقيلة، وربما كنت مشغول البال فلم تسمع همس الحروف. وكم من قارئ عاد إلى كتاب قديم، فوجده جديداً كلياً! وكم من كتاب عشقته في لحظة ما، ثم عدت إليه لاحقاً، فلم تجد فيه سوى أوراق. القراءة علاقة… لا تُقاس بلقاءٍ واحد.

إذن، اقرأ بقلبك لا بعين الآخرين. لا أحد يقرأ مكانك، فلا تحبس قراءتك في قفص المقارنات، ولا تطلب من كل كتاب أن يُبهر من أول صفحة. بعض الكتب تحتاج أن تنبت داخلك أولاً، وبعضها لا تُفهم إلا بعد سنوات من النضج.

دع التجربة تقودك، لا التوصيات. دع حدسك يختار. واخفض صوت الحكم… فأحكامنا على الكتب ليست إلا مرايا تعكسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى