
ثمة لحظات لا يتوقعها الكاتب، لكنها تأتي لتختبر جوهر مسيرته كلها. قد تحدث في معرض للكتاب، أو على طاولة مقهى، أو خلال ندوة ثقافية. يقترب شخص لا يعرفه الكاتب معرفة شخصية، يتردد قليلًا، ثم يقول إنه قرأ له يومًا كتابًا أو مقالةً، وإن تلك الكلمات ما زالت حاضرة في ذهنه حتى الآن. جملة قصيرة كهذه كافية لتغيير مزاج الكاتب، لا لأنها مديح، بل لأنها تعيد تعريف معنى ما يفعله.
اليوم حدث معي هذا، فأعاد إليّ الكاتب بعدما حبسه الناشر في مكان بعيد لفترة طويلة.
فالكاتب يعمل في العادة داخل فراغ طويل. يكتب، ينشر، ثم تختفي نصوصه في زحام العالم. لا يعرف أين وصلت، ولا كيف قُرئت، ولا ما الذي بقي منها. لذلك، عندما يلتقي بقارئ يعترف بأن نصًا ما ترك أثرًا حقيقيًا، يشعر بأن الجهد الذي بُذل في تلك اللحظات المنعزلة أمام الورق لم يتحول إلى رماد. ثمة صدى عاد من مكان غير متوقع ليقول إن النص نجح في اختراق المسافة بين الكاتب وقارئه.
ما يتذكره القارئ ليس تفاصيل النص، بل ما أحدثه فيه من انزياح في الفكرة أو انفتاح في الرؤية. الأثر لا يصنعه الأسلوب وحده، ولا التزيين البلاغي؛ يصنعه حضور فكرة تلامس منطقة قلقة داخل الإنسان، أو تمنحه لغة يعبّر بها عمّا كان يشعر به دون أن يعرف كيف يصوغه. لهذا يبقى نص معين، بينما تتلاشى نصوص أخرى مهما علت أصوات أصحابها.
نجاح الكاتب لا يُقاس بعدد الصفحات ولا بمقاييس الانتشار السريع. الأرقام قد تصنع ضجيجًا، لكنها لا تمنح معنى. الكاتب الحقيقي لا يبحث عن جمهور عابر، بل عن قارئ واحد يتذكر. الذاكرة هنا هي المعيار، لأنها وحدها تكشف إن كانت الكتابة فعلًا حيًا أم مجرد أداء لغوي. قارئ واحد يحتفظ بفكرة بعد سنوات، أهم من ألف قارئ نسي كل شيء بعد يومين.
في جوهر الأمر، الكتابة ليست منتجًا ينتهي عند لحظة نشره، بل علاقة تتشكل بين كاتب يحاول أن يقول شيئًا، وقارئ يبحث عن ما يساعده على تسمية تجربته. هذه العلاقة تكتمل عندما يعود القارئ، بعد زمن لا يُعرف مداه، ليقول إنه ما زال يحمل جملة أو فكرة كتبها ذلك الكاتب ذات يوم. هنا ينتقل النص من الورق إلى الذاكرة، ومن الذاكرة إلى الحياة.
الزمن هو الامتحان الأخير للنصوص. بعضها يولد ويذبل سريعًا، وبعضها يظل قادرًا على العودة في لحظة غير متوقعة. الكاتب لا يقرر متى يحدث هذا، ولا يملك أداة لفرضه. لكنه يعرف تمامًا حين يحدث أن الكتابة لم تكن عبثًا، وأن الساعات الطويلة أمام الورق كانت محاولة ناجحة لمنح العالم شيئًا يمكن أن يُتذكر.
هذه اللحظة، حين يقول قارئ: “ما زلت أذكر ما كتبت”، هي المكافأة التي لا تشبه أي مكافأة أخرى. ليست تصفيقًا ولا شهادة ولا رقمًا في تقرير مبيعات. إنها الدليل الوحيد على أن الكلمات تحولت إلى أثر. وعندها فقط يفهم الكاتب سبب استمراره في الكتابة، رغم كل الشكوك التي رافقته في الطريق.




