وهم المعرفة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي: كيف نقع في الفخ؟
في العصر الرقمي الحديث، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية. نقضي ساعات طويلة في تصفحها، نقرأ الأخبار، ونشاهد الفيديوهات، ونتفاعل مع المحتوى المقدم لنا. ومع هذا الكم الهائل من المعلومات المتدفقة، يبدو أننا نحصل على معرفة لا حدود لها في كل لحظة. لكن هل هذا صحيح؟ هل تمنحنا هذه المنصات فهمًا عميقًا، أم أنها تغرقنا في وهم المعرفة؟
“وهم المعرفة” هو مصطلح يشير إلى الشعور الزائف بالفهم. إنه الإحساس بأنك تفهم شيئًا ما بشكل جيد، فقط لأنك تعرضت لمعلومات سطحية أو مختصرة عنه. هذه الحالة تحدث في مختلف جوانب الحياة، لكنها أصبحت أكثر انتشارًا في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. بضغطة زر، يمكنك الاطلاع على منشورات ومقالات وفيديوهات حول مواضيع متعددة، مما يعطيك إحساسًا بأنك أصبحت خبيرًا، بينما في الواقع لم تلمس سوى السطح.
تقدم وسائل التواصل الاجتماعي كميات هائلة من المعلومات في وقت قصير، وغالبًا ما تكون هذه المعلومات مختصرة وغير مكتملة. نتنقل من منشور لآخر، من فكرة لأخرى، دون التعمق في أي منها. نتيجة لذلك، نشعر وكأننا نعرف الكثير، ولكن في الحقيقة، المعرفة التي نكتسبها سطحية ولا تدعم الفهم الحقيقي. يقول آرثر شوبنهاور (فيلسوف ألماني): “القراءة ليست سوى بديل للتفكير بعقل شخص آخر؛ إنها تعفي العقل من مشقة التفكير“.
تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي على خوارزميات متقدمة تقدم لنا المحتوى بناءً على ما نفضل مشاهدته. هذا يخلق “فقاعات معرفية” حيث نتعرض فقط لما يتوافق مع اهتماماتنا وآرائنا السابقة. هذا يعزز الشعور بأننا “نفهم” ما يجري حولنا، بينما في الحقيقة نحن نعيش في عزلة فكرية، محاطين فقط بمحتوى يعزز وجهات نظرنا دون تحديها أو توسيع أفقنا. يحذر روبرت ميرتون (عالم اجتماع أمريكي) من هذه الظاهرة قائلًا: “الانغلاق الفكري هو أول خطوة نحو الجهل المطلق“.
التفاعل السريع الذي تشجعه وسائل التواصل الاجتماعي يعزز سلوكًا غير نقدي، حيث نميل إلى قبول المعلومات دون تدقيق أو تحليل. عندما نقرأ منشورًا مختصرًا أو نرى فيديو قصيرًا، نتفاعل بسرعة إما بالإعجاب أو بالتعليق دون التحقق من المصادر أو التفكير في الجوانب المختلفة للموضوع. يقول نيل بوستمان (مفكر أمريكي): “المشكلة ليست أن التلفزيون يقدم لنا معلومات ترفيهية، بل أنه يقدم كل المعلومات كترفيه“.
مع ازدياد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل على أي شخص أن يقدم نفسه كخبير في مجال ما. ويمكن أن نرى أشخاصًا بلا خبرة أو خلفية علمية يقدمون آراءهم كحقائق، ويكتسبون شعبية وتأثيرًا بفضل التفاعل الجماهيري الكبير. وهذا يزيد من انتشار المعلومات المضللة ويعزز وهم المعرفة بين المتابعين. يحذر كارل ساغان (عالم فلك أمريكي) من هذه الظاهرة قائلًا: “إن أي ادعاءات استثنائية سوف تتطلب أدلة استثنائية“.
لتجنب الوقوع في وهم المعرفة، علينا أن نتعلم كيف نشكك في المعلومات التي نتلقاها. لا ينبغي أن نأخذ كل ما نقرأه أو نراه على وسائل التواصل الاجتماعي على أنه حقيقة، بل يجب أن نتحقق من المصادر ونفكر في الأدلة المقدمة. كما علينا أن نسعى للتعمق في الموضوعات التي تهمنا، بدلًا من الاكتفاء بالمعلومات المختصرة. يقول ألبرت أينشتاين: “من المهم ألا نتوقف عن طرح الأسئلة. الفضول له سبب لوجوده“.
في النهاية، إن وسائل التواصل الاجتماعي أداة قوية يمكن استخدامها بشكل إيجابي للتواصل والتعلم. لكن إذا لم نكن حذرين، قد نجد أنفسنا في فخ “وهم المعرفة”. الحل يكمن في التوازن: استخدام وسائل التواصل بحذر، والبحث عن المعرفة الحقيقية من خلال التعمق، النقد، والتفكير المتأني. كما يذكرنا سقراط: “أعرف أني لا أعرف شيئًا“، وهذه بداية الحكمة الحقيقية.