أخلاقيالاتزان الحياتيالاتزان الروحيالاتزان الفكريالوعي الذاتيفلسفة

“الابتلاء: نعمة مخفية في ثنايا الخلق”

كنت في سيارتي، كعادتي، أستمع إلى جرعتي الصباحية من القرآن الكريم، حين توقفت عند الآية: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا” (الإنسان ٢)، وكأنني أسمعها للمرة الأولى. كانت تلك الكلمات وكأنها تنبض بحياة جديدة، فتحت لي بابًا من التأمل في المعنى العميق للوجود الإنساني. توقفت بدهشة عند فكرة أن الابتلاء قدر مكتوب على الإنسان منذ لحظة خلقه، وأنه جزء من رحلته في هذه الحياة، مرتبط بكيانه الإنساني منذ اللحظة الأولى لتكوينه.

لطالما شعرت وتصورت أن الابتلاءات تأتي لاحقًا في الحياة، كأنها مراحل من الاختبار تظهر مع مرور الزمن. لكن هذه الآية أضاءت في نفسي رؤية أعمق: الابتلاء ليس حدثًا عرضيًا يأتي بعد حين، بل هو مغروس في أصل الخلق الإنساني، ومرتبط بجوهر وجودنا. إن الابتلاء هو الذي يمنح الحياة معناها، وهو الذي يختبر صلابة الإيمان وصبر النفس أمام تقلبات الدنيا.

وتذكرت آية أخرى تقول: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت ٢). إنها تذكرنا بأن مجرد التلفظ بالإيمان لا يكفي، بل إن الإيمان يحتاج إلى إثبات عملي. الفتن والابتلاءات هي التي تُظهر صدق الإيمان من زيفه، وهي التي تميز بين من يثبت أمام التحديات ومن يخور عزمه. إنها حكمة إلهية، أن الله يبتلي عباده ليختبرهم، ليصقل إيمانهم، وليميز الصادقين في إيمانهم من غيرهم.

قد تبدو هذه الفكرة قاسية عند النظر إليها من زاوية ضيقة، وكأن الإنسان محكوم عليه بالشقاء المستمر. لكن إذا تعمقنا في فلسفة الابتلاء، نجد أن الله سبحانه وتعالى، برحمته وحكمته، لا يبتلي عباده إلا لحكمة بالغة ولخير أعظم. الابتلاء ليس قسوة بل نعمة مخفية؛ الله يبتلي الإنسان ليهذبه، وليقوي إيمانه، وليعلمه الصبر والتوكل على الله في كل أمر. في لحظات الابتلاء، يدرك الإنسان مدى ضعفه وحاجته الدائمة إلى الله، ويدرك أن الدنيا دار فناء، وأن الآخرة هي دار الجزاء.

الابتلاءات تعيد الإنسان إلى جوهره، وتكشف عن جوانب في النفس لم يكن ليدركها من دون المرور بتلك التجارب. الإنسان ينمو ويتطور من خلال ما يمر به من محن، والابتلاءات هي التي تجعل الإنسان يدرك حقيقة النعم التي أنعم الله بها عليه، فيقدرها حق تقديرها. ومن خلال هذه التجارب، يتعلم الإنسان الحكمة، ويزداد قربًا إلى الله سبحانه وتعالى.

الابتلاء ليس عقوبة، بل هو وسيلة للتطهير والتهذيب. من خلاله يتعلم الإنسان كيف يصبر، وكيف يشكر، وكيف يرضى بما قسمه الله له. الابتلاءات تذكر الإنسان بأن الدنيا ليست دار استقرار دائم، بل هي محطة مؤقتة، مليئة بالتجارب وبالمحطات والاختبارات التي تهدف إلى تهذيب النفس وتوجيهها نحو الغاية الأسمى. إنها تذكرنا بأننا في رحلة، وأن هذه الرحلة مليئة بالتقلبات التي تجعلنا أكثر حكمة ونضجًا. الابتلاءات ليست سوى وسيلة لتذكير الإنسان بحقيقة الدنيا، وأنها دار ابتلاء واختبار، وأن دار الجزاء هي الآخرة، حيث سيلقى المؤمن جزاء صبره وثباته.

فإذا نظر الإنسان إلى الابتلاء من هذه الزاوية، سيتغير إدراكه للعالم من حوله. الابتلاء لم يعد عقبة في طريقه، بل خطوة نحو النضج الروحي والتقرب إلى الله. في خضم الابتلاءات، نجد الفرص لنمو الروح وتطهير القلب، ولتقوية علاقة الإنسان بربه، إذ يزداد الإنسان يقينًا بأن الله لا يبتليه إلا ليرفعه درجة، ويزيده قربًا إليه. الابتلاءات في هذه الدنيا، رغم ما فيها من ألم، تحمل في طياتها رحمة عظيمة، وفرصة للتأمل والعودة إلى الله.

عندما نفهم الابتلاء بهذا العمق، ندرك أنه ليس عبئًا ثقيلًا، بل هو طريق نحو الكمال الإنساني. هو الذي يعلمنا الصبر، ويُظهر لنا قوة التحمل التي لا نعرفها عن أنفسنا. هو الذي يجعلنا نقدر النعم التي بين أيدينا، ويفتح أعيننا على الجوانب الإيجابية حتى في أشد الأوقات صعوبة. الابتلاء يجعل الإنسان يعيش بحالة من التسليم الكامل لله، والرضا بما كتبه الله له، فيطمئن قلبه ويشعر بالسلام الداخلي حتى في أصعب الأوقات.

وبذلك، فإن الابتلاء يصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان، ليس كعقوبة أو مصير قاسٍ، بل كفرصة للتطور الروحي وللتقرب إلى الله. هو السبيل الذي من خلاله يختبر الله عباده ليمنحهم من نعمه، وليعدهم للدار الآخرة، حيث النعيم الأبدي. في هذه الرحلة، يكون الابتلاء هو الدليل الذي يرشد الإنسان إلى الطريق الصحيح، وهو الذي يجعله يدرك أن السعادة الحقيقية والنجاح يكمنان في الصبر والرضا والتوكل على الله، حتى تتجلى حكمته في كل خطوة من خطوات الحياة.​​​​​​​​​​​​​​​​

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى