من الأنا إلى النحن: استكشاف العالم عبر خريطة التعاطف
قرأتُ مؤخرًا كتاب “التعاطف: جوهر التواصل الإنساني” للباحثة الاجتماعية كارلا ماكلارين، وقد استوقفني بشدة مفهوم “خريطة التعاطف” الذي تناولته الكاتبة بعمق وتفصيل لافت.
خريطة التعاطف هي أداة إدراكية بصرية ذات قوة تحليلية فائقة، تُمكِّننا من سبر أغوار وعي الآخرين وإدراك تجاربهم بصورة أكثر عمقًا وشمولية. تقوم هذه الخريطة بتشريح تجربة الفرد إلى محاور رئيسية متعددة الأبعاد: ما يجول في خاطره ويختلج في وجدانه، ما يتناهى إلى سمعه، ما يقع تحت بصره، ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، إضافةً إلى ما يكابده من آلام وما يجنيه من مكاسب.
يقول عالم النفس الشهير كارل روجرز: “حين أدرك ذاتي على حقيقتها، وأتقبلها كما هي، فإنني أشرع في التغيير“. هذه الحكمة البليغة تنسحب بالضرورة على إدراكنا للآخرين. فحين نوظف خريطة التعاطف، نسعى جاهدين إلى تقمص شخصية الآخر، واستشراف العالم من منظوره الخاص.
لنضرب مثالًا توضيحيًا بتطبيق خريطة التعاطف على تجربة طالب جامعي في عامه الدراسي الأول:
- ما يعتمل في فكره ووجدانه: قلق عميق إزاء التكيف مع الحياة الأكاديمية الجديدة، مقرون بحماسة جياشة لاستكشاف آفاق معرفية غير مطروقة.
- ما يتردد على مسامعه: نصائح حكيمة من ذويه وأصدقائه، توجيهات صارمة من أساتذته، وشائعات متواترة حول صعوبة بعض المقررات الدراسية.
- ما يقع تحت بصره: حرم جامعي شاسع يزخر بالمرافق الحديثة، وجوه غريبة تنتظر التعارف، وفرص أكاديمية واجتماعية متنوعة تلوح في الأفق.
- ما يصدر عنه من أقوال وأفعال: التعبير الصريح عن مزيج من الحماس والتوجس، السعي الحثيث لتكوين صداقات جديدة، والانكباب على الدراسة بجد واجتهاد.
- آلامه: هواجس الفشل المحتمل، شعور مؤلم بالوحدة والاغتراب، وطأة التوقعات العالية الملقاة على عاتقه.
- مكاسبه: اكتساب معارف قيمة، صقل المهارات الذاتية، وتأسيس شبكة علاقات اجتماعية واسعة.
تقول الباحثة المرموقة بريني براون: “التعاطف هو الترياق الشافي للخجل. إنه أقوى مضاد حيوي لهذا الداء النفسي“. عند توظيف خريطة التعاطف، نفتح أذهاننا على مصراعيها لاستيعاب مخاوف الآخرين وطموحاتهم، مما يمهد السبيل للتواصل معهم بفاعلية أكبر وتقديم الدعم الأمثل لهم.
يمكن تطبيق هذه الأداة الفكرية في مجالات شتى. ففي عالم الأعمال، تُستخدم لسبر أغوار احتياجات العملاء بدقة متناهية. وفي حقل التربية والتعليم، يمكن للمعلمين الاستعانة بها لفهم التحديات التي تواجه طلابهم بعمق أكبر. أما على صعيد العلاقات الشخصية، فهي كفيلة بتعميق فهمنا لأحبائنا وتوطيد أواصر التواصل معهم.
في المحصلة النهائية، لا تقتصر خريطة التعاطف على كونها مجرد أداة تحليلية، بل هي منهجية متكاملة لتطوير مهارة جوهرية في الحياة. وكما يقول الكاتب المفكر إيان ماكلارين: “التعاطف هو الجسر الممتد بين ‘الأنا’ و’النحن’“. فمن خلال استخدام هذه الخريطة، نشيد هذا الجسر الحيوي، ونسهم في خلق عالم يسوده التفاهم المتبادل والترابط الإنساني العميق.
إن رحلة الانتقال من الأنا إلى النحن عبر خريطة التعاطف هي رحلة استكشاف للعالم بأعين الآخرين. هذه الرحلة تمكننا من تجاوز حدود ذواتنا، وفهم التنوع الثري في التجارب الإنسانية. وبهذا الفهم العميق، نرتقي بعلاقاتنا وتفاعلاتنا إلى مستويات جديدة من الوعي والتقدير المتبادل، مما يعزز قدرتنا على بناء مجتمع أكثر تماسكًا وتعاونًا.