مفاتيح الخير مغاليق الشر
لدي فكرة لطالما رددتها لإيماني العميق بها. عندما يكون بيدك مبلغ من المال، لنقل مئة دينار أو ألف درهم مثلاً، وتريد أن تتصدق به، فنصيحتي أن لا تفعل كما يفعل أغلب الناس، وهو القيام بتفرقة المبلغ على أكبر عدد ممكن من المحتاجين، وإنما أن تبحث عن محتاج واحد بعينه، يكون بحاجة ماسة لهذا المال، فتقوم بإعطائه كامل المبلغ دفعة واحدة.
مئة دينار أو ألف درهم أو ما يوازيها، عندما نوزعها على عشرين شخصاً أو عشرة أو حتى خمسة، فلن يصل إلى يد الواحد منهم في المحصلة إلا مبلغاً زهيداً جداً. صحيح أنه قد يكفيه للحصول على حاجة من الاحتياجات الإنسانية الأساسية، ولكن الأثر سيظل بسيطاً ومتواضعاً في النهاية وسرعان ما سيتلاشى، في حين أن المبلغ كاملاً، عندما يقع بيده سيكون له أثر أكبر بكثير، فهذا المبلغ الذي قد يراه البعض منا صغيراً جداً، يعادل في حقيقته راتب شهر كامل أو شهرين وربما أكثر، لأولئك الذين يعملون في العديد من الأعمال البسيطة المتواضعة، وسيعادل أكثر من ذلك بكثير لمن حرموا من فرصة الحصول على عمل.
ذات مرة، وفي جلسة صفاء جميلة، أسر لي أحد الأصدقاء ممن يدرسون في القاهرة، بأنه وفي تلك الليالي التي كان يجد نفسه فيها مكتئباً أو واقعاً تحت ضغط نفسي لسبب من الأسباب، كان قد عود نفسه على القيام سراً بأمر غريب نوعاً ما.
يقول لي صديقي، ولن أكشف اسمه احتراماً لخصوصية الأمر وحتى لا أخرجه من تأثيره وألقه السحري، أنه كان يقصد جهاز السحب الآلي فيأخذ مبلغاً من المال، إما ألفاً أو ألفين من الجنيهات، بحسب ما يتيسر له حينها، ويذهب ليتجول بسيارته في الشوارع الجانبية المظلمة إلى أن تقع عينه على شخص يرى فيه الحاجة، ككناس أو بائع أو «شيال» بسيط أو ما شابه، فيذهب إليه ويعطيه المبلغ كله دفعة واحدة.
يضيف صديقي بأن سعادة ذلك الإنسان حينها أبعد بمراحل من أي قدرة بلاغية على الوصف، وأن شعوره هو وهو يشاهد تعبيرات وجه ذلك الإنسان وقد وقع بيده ذلك المال الذي قد «نزل عليه من السما» على حد التعبير المصري الصادق الجميل، كان دائماً يعادل الدنيا بأسرها، ويجعله يشعر بسعادة غامرة تعدّل مزاجه وتعيد له الراحة النفسية التي كان يفتقدها قبل تلك اللحظة.
هذه القصة الغريبة، جعلتني شخصياً أشعر بالانتشاء، وأرجو الله تعالى حقاً لصاحبي أجر ما كان يفعل، لكن دعوني هنا آخذكم إلى مستوى أعمق في ذات الموضوع. تأثير الواحد منا في حياة الناس من حوله، أمر قد يكون مر في أذهان الكثيرين، ولعل الغالب على تفكيرنا حينها أن تكون وسيلة التأثير مادية مباشرة، كمثل أن يكون بالمال مباشرة، كقصة صاحبي التي ذكرت، أو بأي من الوسائل المادية الأخرى كمساعدة أحدهم على الحصول على وظيفة أو عمل أو فرصة للعلاج وهكذا، لكن أشكال وأنواع التأثير لا تتوقف عند هذا النوع ولا شك، فالإنسان، وحتى ذاك الذي تعوزه القدرة على تقديم المساعدة المادية الكبيرة والمباشرة للآخرين، يظل قادراً على التأثير على من حوله بأشكال غير مادية عديدة متنوعة، قد تكون في بعض الأحيان أبلغ أثراً وأعمق تأثيراً من الماديات.
إن الإنسان في الحقيقة، وطالما هو في تواصل وتفاعل مع الآخرين، والناس الأسوياء هم جميعاً في الغالب على هذه الحالة، يكون أشبه بالجسم المشع الذي يتوهج بإشعاعات تصل للأجسام المتصلة به. وهذه الإشعاعات وكما أن من المحتمل أن تكون إيجابية مفيدة، فإن من المحتمل أيضاً أن تكون سلبية مضرة. الإنسان ومن خلال كلماته وتصرفاته المباشرة وغير المباشرة بل وكذلك من خلال صمته وطبائعه وأخلاقه يؤثر على المحيطين به إما إيجاباً أو سلباً، فتراه قد يرفع من معنويات هذا وقد يجرح مشاعر ذاك، وقد يسعد هذا وقد يحزن ذاك، وقد يساعد هذا وقد يخذل ذاك، وقد ينصف هذا وقد يظلم ذاك، وقد يهدي هذا إلى الطريق القويم وإلى الخلق السليم وإلى التعامل الإنساني النبيل، وقد يضل ذاك عن سواء السبيل!
يا سادتي، إن الواحد منا، وكما أنه كتلة متأثرة بما يحيط بها طوال الوقت، وهذا ما لا نغفل عنه أبداً لأننا نشعر بهذه المؤثرات وهي تخترق أجسادنا ونفوسنا وتتغلغل فينا لحظة بلحظة في الغالب، فإنه أيضاً كتلة مؤثرة بمن حولها، سواء أكان ذلك بوعي منه أو دون وعي، وهذا ما نغفل أو نتغافل عنه. ويصبح الأمر خطيراً جداً عندما يكون التأثير هذا تغييرياً جذرياً أو كبيراً على حالة وفكر وحياة إنسان بعينه، كزوج أو زوجة مثلاً، أو الأبناء أو الأصدقاء المقربين، أو أي شخص يرتبط بنا ارتباطاً وثيقاً لسبب من الأسباب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل وحسرة لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»، لهذا فنحن بحاجة حقاً لأن نجلس مع أنفسنا لنكاشفها، ونكشف أمامها عن دائرة التأثيرات الصادرة عنها طوال الوقت، فنضع أيدينا على الإيجابي منها لننميه ونقويه ونشعر بالسعادة والفخر إزاءه، ونضع أيدينا كذلك على التأثيرات السلبية الضارة التي كنا نطلقها، بوعي ودون وعي، باتجاه الآخرين، فنعترف بها ونعتذر عنها لأنفسنا وللآخرين بكل صراحة، ونشرع بمعالجتها والكف عنها. جعلنا الله وإياكم من مفاتيح الخير مغاليق الشر.