نظرةٌ تحليليةٌ عميقة
يُقدمُ الدكتور دانيال ويلينجهام، في كتابِه المؤثر “لماذا لا يحبُ الطلابُ المدرسة؟” (Why Don’t Students Like School?)، تحليلاً عميقاً يستندُ إلى علمِ النفسِ المعرفي، موضحاً كيفَ يعملُ العقلُ البشري وما الذي يجعلُ التعلمَ ممتعاً أو مُنفراً للطلاب. يفتحُ هذا الكتابُ نافذةً مهمةً لفهمِ المشكلةِ التي تؤرقُ كثيراً من الآباءِ والأمهات، حينَ يشاهدون أطفالَهم يستيقظون كلَّ صباحٍ متثاقلين، يجرّون أقدامَهم نحو المدرسةِ بلا حماس. ليست هذه المشاعرُ غريبةً، ولكنها تستحقُ منا وقفةً تأمليةً وفهماً عميقاً لجذورِها وحلولِها.
جذورُ المشكلة: تشابكُ الأسباب
تتشابكُ أسبابُ كُرهِ المدرسةِ وتتداخل، فقد يبدأُ الأمرُ بصعوبةٍ في فهمِ مادةٍ دراسيةٍ معينة، ليتحولَ تدريجياً إلى شعورٍ بالإحباطِ يمتدُ إلى المدرسةِ بأكملِها. يواجهُ بعضُ الطلابِ تحدياً في التكيفِ مع المناهجِ الدراسيةِ المكثفة، في حينِ يعاني آخرون من العلاقاتِ المتوترةِ مع المعلمين أو الزملاء. يؤكدُ ويلينجهام أنَّ فهمَ كيفيةِ عملِ الدماغِ في مرحلةِ التعلمِ يساعدُ في تجاوزِ هذه العقبات.
تأثيرُ البيئةِ المدرسية
قد تكونُ البيئةُ المدرسيةُ نفسُها سبباً في نفورِ الطفل. فالفصولُ المكتظة، والمباني التي تفتقرُ إلى المساحاتِ الخضراءِ والمرافقِ الترفيهية، تجعلُ من المدرسةِ مكاناً طارداً بدلاً من أن تكونَ بيئةً جاذبةً للتعلمِ والإبداع. ولا ننسى أنَّ التنمرَ، الذي أضحى ظاهرةً متفشيةً في مدارسِنا، يتركُ ندوباً عميقةً في نفسيةِ الطفلِ تجعلُه يكرهُ كلَّ ما يرتبطُ بالمدرسة.
الضغطُ الأكاديمي: عبءٌ ثقيل
يؤدي الضغطُ الأكاديميُ دوراً محورياً في هذه المشكلة. فكثرةُ الواجباتِ المنزلية، وتتابعُ الامتحانات، وتوقعاتُ الأهلِ العالية، كلُّها عواملُ تُثقلُ كاهلَ الطفلِ وتحولُ المدرسةَ في عينيهِ إلى مصدرٍ للتوترِ والقلق. يزدادُ الأمرُ سوءاً حينَ يشعرُ الطفلُ بعجزِه عن مجاراةِ زملائِه أو تحقيقِ التوقعاتِ المرجوةِ منه.
بدايةُ الحل: التواصلُ المنزلي
يبدأُ التغييرُ من المنزل، حيثُ يستطيعُ الوالدان خلقَ جوٍ من التواصلِ المفتوحِ والصادقِ مع أطفالِهم. إنَّ الإصغاءَ باهتمامٍ لمشكلاتِهم، وتفهمَ مخاوفِهم، والعملَ معهم على إيجادِ حلولٍ تناسبُهم، خطواتٌ أساسيةٌ في رحلةِ تحسينِ علاقةِ الطفلِ بالمدرسة. يشيرُ الخبراءُ إلى أنَّ الدعمَ العاطفيَ والنفسيَ من الوالدين يُعدُ حجرَ الأساسِ في بناءِ علاقةٍ إيجابيةٍ مع التعلم.
التعاونُ المثمر: البيتُ والمدرسة
يُعدُ التعاونُ مع المدرسةِ ضرورياً. فعندما يرى الطفلُ والديهِ يهتمانِ بتعليمِه، ويتواصلانِ مع معلميه، ويشاركانِ في الأنشطةِ المدرسية، يدركُ أهميةَ التعليمِ وقيمتَه. كما أنَّ هذا التواصلَ يساعدُ في اكتشافِ أيِ مشكلاتٍ مبكراً والتدخلِ لحلِها قبلَ تفاقمِها.
مهاراتُ التنظيمِ والدراسة
من الضروريِ مساعدةُ الطفلِ في تنظيمِ وقتِه وتطويرِ مهاراتِ الدراسةِ المناسبةِ له. فكثيرٌ من الأطفالِ يكرهون المدرسةَ لأنهم لا يعرفون كيفَ يدرسون بفاعلية. إنَّ تعليمَهم كيفيةَ تقسيمِ المهامِ الكبيرةِ إلى أجزاءٍ صغيرةٍ يمكنُ التعاملُ معها، وكيفيةَ الاستذكارِ بطريقةٍ فعالة، يمكنُ أن يغيرَ نظرتَهم للدراسةِ تماماً.
بناءُ الثقة: أساسُ النجاح
يُشكلُ تعزيزُ الثقةِ بالنفسِ عاملاً حاسماً في تحسينِ علاقةِ الطفلِ بالمدرسة. فالطفلُ الواثقُ من نفسِه يواجهُ التحدياتِ الأكاديميةَ والاجتماعيةَ بشجاعةٍ أكبر. يمكنُ تحقيقُ ذلك من خلالِ الاحتفاءِ بإنجازاتِه مهما كانت صغيرة، وتشجيعِ مواهبِه وهواياتِه، والابتعادِ عن مقارنتِه بغيرِه من الأطفال.
خاتمة: رحلةُ التحول
إنَّ تحويلَ كُرهِ المدرسةِ إلى حبٍ للتعلمِ رحلةٌ تتطلبُ صبراً وتفهماً ودعماً مستمراً. قد لا تظهرُ النتائجُ فوراً، لكنَّ العملَ المتواصلَ والمنهجيَ سيؤتي ثمارَه حتماً. هدفُنا ليس مجردَ جعلِ الطفلِ يتحملُ المدرسة، بل أن يرى فيها فرصةً للنموِ والتطورِ والإبداع. وكما يؤكدُ ويلينجهام في كتابِه، فإنَّ فهمَ طبيعةِ التعلمِ وكيفيةِ عملِ العقلِ هو المفتاحُ لتحويلِ المدرسةِ إلى تجربةٍ ممتعةٍ ومثمرة.