الحظ كلمة تتردد على الألسنة كثيرًا، لكنها بالنسبة لي لا تحمل معنًى حقيقيًا أو موثوقًا. لا أؤمن بالحظ بوصفه عاملاً مستقلاً يؤثر في حياتنا أو يحدد مصائرنا، بل أؤمن بقدر الله المرسوم بدقة وتفصيل، الذي ينظم حياتنا وفق حكمة إلهية لا تخطئ ولا تترك شيئًا للصدفة.
يقولون إن التخطيط والاجتهاد يقودان إلى النجاح، ولكن الواقع يعلمنا أن هذا ليس قانونًا صارمًا. كم من أناس خططوا وأجهدوا أنفسهم لتحقيق أهدافهم ولم ينالوا مرادهم، وفي المقابل هناك من نال النجاح بتخطيط وجهد أقل. هذه ليست مصادفة أو حظًا، بل هي جزء من تدبير إلهي، فالله يوزع الأرزاق كيفما يشاء، كما قال تعالى: “وَاللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (سورة العنكبوت: 62). وهذا يعكس عمق الحكمة الإلهية التي لا ندركها دومًا، لكننا نتعلم مع الوقت أن نثق بها.
الحياة مليئة بالأحداث التي قد تبدو لنا خيرًا أو شرًا في ظاهرها، لكن مع مرور الزمن تظهر الحكمة الخفية. ما ظنه يوسف عليه السلام في صغره ظلمًا حين أُلقي في الجب، كان مقدمة لتحقيق رؤية عظيمة جعلته في النهاية عزيز مصر. كذلك قصة موسى عليه السلام تحمل هذا الدرس العظيم؛ فعندما ألقي في اليم رضيعًا، وظن الجميع أن مصيره الهلاك، كان ذلك جزءًا من خطة إلهية جعلته ينشأ في بيت فرعون ليكون قائدًا لبني إسرائيل. ومن التاريخ الإسلامي نجد مثال الإمام أحمد بن حنبل، الذي تعرض للسجن والتعذيب في محنة خلق القرآن، لكن ثباته على الحق وصبره على البلاء جعله إماماً يُقتدى به ومنارة للعلم والإيمان، فكان ما ظُنَّ شراً سبباً في رفع مكانته ونفع الأمة بعلمه.
ومن ناحية أخرى، كم من نجاح ظنه صاحبه مكسبًا كبيرًا، لكنه تحول إلى نقمة جلبت له المتاعب والمصاعب. قال الله تعالى: “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (سورة البقرة: 216). هذه الحكمة القرآنية لا تترك مجالًا للصدفة أو الحظ العشوائي، بل تضعنا أمام حقيقة أن كل ما يحدث هو جزء من تدبير محكم.
هذه الأمثلة التاريخية والدينية تقودنا إلى نقطة محورية في فهم القدر: أن ظاهر الأمور قد يخدع، وأن تفسيرنا البشري المحدود للأحداث قد يضللنا عن رؤية الحكمة الإلهية الكاملة. ومن هنا يجدر بنا أن نناقش بعض المفاهيم الخاطئة التي شاعت بين الناس حول الحظ والقدر، والتي تحتاج إلى تصويب في ضوء هذا الفهم.
فمن الأفكار المغلوطة الشائعة أن هناك أشخاصًا “محظوظين دائمًا”، وكأنهم يمتلكون امتيازًا إلهيًا يجعلهم بمنأى عن المصاعب. لكن هذه فكرة سطحية لا تتفق مع طبيعة الأقدار. فاللّه لا يميز أحدًا بالحظ المطلق، بل يختبر الجميع وفق ظروفهم وأحوالهم. فقد يبدو البعض محظوظين من الخارج، لكن ما يخفيه ظاهرهم قد يكون سلسلة من التحديات والابتلاءات التي لا يعلمها إلا الله. وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط” (رواه الترمذي). كل شخص يمر بتجارب تختبره، حتى من نظنهم في نعيم دائم.
وينبغي أن نفهم أن الإيمان بالقدر لا يعني التخلي عن العمل، بل يدفعنا لبذل الجهد مع إدراك أن النتائج ليست بأيدينا. ولعل قصة عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) خير مثال على هذا المفهوم؛ فحين هرب من بطش العباسيين بعد سقوط الدولة الأموية، ظن الكثيرون أن مستقبله انتهى، لكنه استطاع بحكمته وجهده أن يؤسس دولة أموية في الأندلس، فكانت منارة للعلم والحضارة لقرون. فلم يكن هذا حظًا، بل كان نتيجة العمل مع الاستعانة بتقدير الله وحكمته.
إن هذا الفهم يخلق توازنًا داخليًا، يجعلنا نسعى دون خوف من الفشل، ونتقبل النتائج برضا وسلام. وما أجمل ما عبر عنه الإمام الشافعي في قوله:
“دع الأيام تفعل ما تشاءُ وطِبْ نفسًا إذا حكم القضاءُ
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاءُ”
الحياة إذًا ليست سلسلة من المصادفات أو الحظوظ، بل هي منظومة إلهية دقيقة. فأرزاقنا وأقدارنا موزعة بعدل قد لا نراه لحظيًا، لكنه دائمًا يصب في مصلحتنا على المدى الطويل. لا أؤمن بالحظ، لأن في الإيمان به إغفالًا لعدالة الله وحكمته. فكل ما نمر به، من نجاحات أو إخفاقات، من نعم أو ابتلاءات، هو جزء من اختبارنا في هذه الحياة، وعلينا أن نتعامل مع ذلك برضا وثقة برب حكيم لا يترك شيئًا للصدفة.