مدينة سمك القرش!
سمك القرش لا يتوقف عن الحركة لأنه إن توقف فلن يطفو، وسيغوص إلى الأعماق فيغرق، لذلك يقال إن سمك القرش لا ينام، فنومه وتوقفه عن الحركة يعنيان موته.
الناس في نيويورك (حيث كنت أتواجد ساعة كتابة هذا المقال)، وأعتقد في كل المدن الكبرى المشابهة، تماما كسمك القرش، لا يتوقفون عن الحركة بحثاً عن لقمة العيش والحياة، فتوقفهم عن الحركة المستمرة الدؤوبة يعني ببساطة خروجهم عن منظومة العمل والحياة، ومن ثم الموت!
في هذه المدن لا أحد يكترث بمعيشة أحد، فالكل يهتم بنفسه أولاً وقبل كل شيء، بل على حساب الآخرين لو اقتضى الأمر، والكل كذلك مسؤول شخصياً عن البحث عن لقمة عيشه وتأمين احتياجات حياته بشكل عام، لذلك فكل شخص يبدأ بالبحث عن فرصة للعمل ما إن يصل إلى سن الثامنة عشرة، ويخرج عن دائرة كفالة أبويه له. وهذا الأمر جعل الناس هنا في هذه المدن لا يتوانون عن العمل في أي مجال يمكن أن يدر عليهم دخلاً يعينهم على مواصلة الحياة على الأقل، وربما السعي بعدها إلى تحقيق ذواتهم كلٌ وفق طموحاته وأحلامه.
كل الأعمال والوظائف في مدن سمك القرش مشغولة بالعاملين والموظفين من أبناء المدن نفسها، يزاحمهم في ذلك المهاجرون بصورة غير شرعية وغيرهم ممن يتوافدون على هذه المدن بلا انقطاع رغبة في الدخول إلى نظامها الحياتي والعيش فيها بعدما ضاقت عليهم السبل في بلدانهم. والكل هنا لذلك بحاجة للكل، فموظف البنك بحاجة لشرطي المرور، والشرطي بحاجة لبائع القهوة، وبائع القهوة بحاجة لعامل النظافة، والعامل بحاجة للطبيب والطبيب بحاجة لعامل الكهرباء، وغيرهم وغيرهم، والكل في ذات الوقت مجبر على دفع الضرائب للدولة للتمتع بالخدمات العامة والأمن، وللسماح له بذلك بالبقاء في المنظومة المجتمعية المتوافق على اتزانها، وهكذا تستمر دورة الحياة وتظل الطاحونة تدور بلا هوادة!
من يتوقفون عن الحركة والسعي في هذه المدن لأي سبب من الأسباب إما يموتون أو ينتهون مع المشردين الذين ينامون في العراء في الأزقة وعلى جوانب الطرق، يتوسدون الأرض ويلتحفون السماء، في صحبة الكلاب الضالة.
رأيت الناس هنا لا يتوانون عن عمل أي شيء لأجل دولارات قليلة، حتى لو اضطرهم الأمر إلى التعري، إلا من ملابسهم الداخلية وربما من دونها، والوقوف في الشوارع صيفا وشتاء، لاستدرار عطف أو استهجان أو استغراب الناس وضحكاتهم، على أمل أن يلقي لهم أحدهم بالقليل من المال!
مدن كونكريتية تستعمرها أسماك القرش التي يحتاج بعضها بعضا ما دام الواحد فيهم صحيحا قويا يتحرك، لكن سرعان ما يترك ليغرق ويموت ما إن يتوقف عن الحركة!
هذه المشاهد والحقائق في عالم اليوم لابد أن تجعل الإنسان يستغرق في التفكير في جوهر ومعنى الحياة، جوهر حياته هو قبل أي شخص آخر، وفي حقيقة دوره شخصيا وقيمته في المجتمع الذي يعيش فيه، وتجعله، وهذا هو الأهم بالنسبة إليّ هنا، يشكر الله عز وجل، على أن جعله من أتباع منظومة دينية وأخلاقية تعلي من قيمة الإنسان وتحفظ كرامته حين ضعفه وعجزه، وتأمر بالتكافل المجتمعي والتآزر بين الناس.