النجاح والفشل مفهومان نسبيان يتشكلان وفق معايير المُقيِّم وقناعاته. ولعل التاريخ يقدم لنا أمثلة جلية على هذه النسبية. فصلح الحديبية الذي رآه بعض الصحابة في حينه تنازلاً، أثبتت الأيام أنه كان فتحاً مبيناً. وحين رفض صلاح الدين الأيوبي العروض السخية للصلح قبل معركة حطين، اعتبره البعض متهوراً، لكن النتيجة أثبتت حكمة موقفه.
وفي سياق أحداث غزة، يبرز جدل مماثل حول معايير التقييم. فالمركزون على الخسائر البشرية والمادية يغفلون عن دروس التاريخ المماثلة. فثورة الجزائر التي استمرت ثماني سنوات كلفت مليون ونصف المليون شهيد، لكنها أثمرت حرية شعب بأكمله. والمقاومة الفيتنامية التي واجهت أعتى قوة عسكرية في عصرها، قدمت تضحيات جسيمة لكنها حققت استقلالها.
الاقتصار على حساب الخسائر يتجاهل حقيقة أن السلام نفسه له تكلفة باهظة. فالاتفاقيات مع الكيان الصهيوني أدت إلى:
• تآكل 40% من مساحة الضفة الغربية
• تضاعف عدد المستوطنين من بضعة آلاف إلى 800 ألف
• تقطيع أوصال المدن الفلسطينية بالحواجز والجدران
• تهويد متسارع للقدس
• تراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات الدولية
تُظهر تجارب المقاومة حول العالم أهمية النظر إلى البعد النفسي والمعنوي في الكفاح ضد الاحتلال والظلم. فالنضال في جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، رغم عقود من التضحيات، أثمر نجاحاً مدوياً عندما انهار النظام بالكامل. كما أن صمود الفلسطينيين في غزة، رغم تفوق العدو تقنياً وعددياً، يعزز الهوية الوطنية ويقوي قناعة الأجيال بعدالة قضيتهم، مما يمنحهم القدرة على الاستمرار في النضال.
أما المعطيات الاستراتيجية للمواجهة الحالية فتشمل:
• أكبر موجة هجرة معاكسة في تاريخ الكيان
• انهيار نظرية الأمن الإسرائيلي
• تصدع الجبهة الداخلية الإسرائيلية
• فشل منظومات الدفاع المتطورة
• تراجع الثقة العالمية بالقدرات العسكرية الإسرائيلية
• صمود غير مسبوق للمقاومة رغم التفوق التقني والعددي
يمكن للمقاومة أن تساهم في تغيير مواقف المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية. فالتغيرات في مواقف الشعوب والحكومات تجاه السياسات الإسرائيلية باتت ملحوظة، حيث أصبحت الانتقادات ضد الاحتلال أكثر حدة وانتشاراً. وهذا التغير، المدفوع بصمود الشعب الفلسطيني، يمكن أن يعزز جهود حشد الدعم الدولي لتحقيق العدالة واستعادة الحقوق.
في النهاية، يتطلب تقييم النجاح والفشل النظر إلى:
1. التكلفة المباشرة
2. التكلفة البديلة (ماذا لو لم تحدث المقاومة؟)
3. المكاسب الاستراتيجية
4. التحولات في موازين القوى
5. الآثار بعيدة المدى على المشروع الصهيوني
كل هذه العناصر تشير إلى أن المواجهة الحالية، رغم تكلفتها الباهظة، وضعت الكيان الصهيوني لأول مرة على مسار تنازلي في مشروعه الاستيطاني.
علينا إعادة صياغة مفهوم “النصر” ليشمل المكاسب الرمزية والنفسية والاستراتيجية، إلى جانب المكاسب المادية. فالتضحيات الكبيرة التي قدمتها الشعوب عبر التاريخ لم تذهب هباءً، بل أثمرت تغييرات جذرية أعادت تشكيل موازين القوى. الأحداث الحالية في غزة قد تكون بداية لتحول تاريخي يمهد الطريق لتحقيق العدالة والحرية، كما حدث في ثورات التحرر السابقة.