الاتزان الحياتيفكريفلسفةقراءةكتب

بين الوهم والمعرفة: كيف تجعل القراءة رحلتك نحو اكتشاف الذات

يقول عبد الفتاح كيليطو في كتابه “الأدب والغرابة” إن للقراءة وجهين متباينين؛ القراءة “العادية” والقراءة “العالِمَة”. ويعني بذلك أن فعل القراءة يتراوح بين نوعين من التفاعل: الأول هو ذلك النوع الذي نمارسه بشكل تقليدي، حيث نتابع الأحداث ونتوغل في النص فقط لنصل إلى النهاية، بينما النوع الآخر هو قراءة تتطلب وعيًا أكبر وإدراكًا أعمق، وتجاوبًا مع النص يتجاوز مستوى الحدث ليغوص في المعاني المخفية والتأملات الشخصية.

عبدالفتاح كيليطو

القراءة “العادية” وأسرارها

القراءة العادية هي تلك التي تسحب القارئ إلى عالم النص وتغمره بالأحداث؛ فتجد القارئ يقلب الصفحات بلهفة، ويعيش تجربة الانجراف مع الشخصيات والمواقف. هذا النوع من القراءة يشبه إلى حد كبير مشاهدة فيلم مشوق؛ نكون على حافة مقاعدنا، نتنقل من حدث إلى آخر، وننتظر لحظة النهاية بفارغ الصبر. إنها قراءة يغمرها الفضول ويسيطر عليها الإحساس بالإثارة والتشويق، وتضع القارئ في حالة من الترقب المستمر. في هذه الحالة، يصبح القارئ متلقيًا يتابع القصة ويمضي فيها دون أن يكون له دور حقيقي في تشكيلها أو تأويلها، وإنما هو مجرد مراقب يسعى للوصول إلى الخاتمة.

إلا أن كيليطو يشير إلى أن لهذه القراءة جانبًا خفيًا؛ فهي، رغم المتعة التي توفرها، قد تحرم القارئ من فرصة التوقف للتأمل والتفكير، حيث إن القارئ الذي يسعى للوصول إلى النهاية بأقصى سرعة قد يفوّت على نفسه الكثير من التفاصيل العميقة التي يحتويها النص. إنه يعيش في وهم الأحداث، مسحورًا بما سيحدث بعد ذلك، لدرجة أنه قد يغفل عن القيم والأفكار الأعمق التي ينقلها العمل الأدبي.

القراءة “العالِمَة” وتأملاتها

على الجانب الآخر، يقدم كيليطو مفهوم القراءة “العالِمَة”، وهي قراءة تتجاوز سطح النص لتغوص في أغواره، وتحلل وتفكك وتعيد تركيب النص من جديد. القراءة العالِمَة لا تُسقط القارئ في دوامة الأحداث، بل تجعله متأملًا، مفكرًا، وباحثًا عن المعاني العميقة والتفاصيل الدقيقة. في هذه القراءة، لا يسعى القارئ إلى الوصول إلى النهاية بسرعة، بل يبطئ من وتيرته، يأخذ وقته مع كل صفحة، يتوقف عند كل جملة ليتأملها ويطرح عليها الأسئلة، ويسمح لنفسه بأن ينغمس في عوالم النص بعمق وهدوء.

القراءة العالِمَة هي قراءة تسعى للفهم لا للاستهلاك، حيث يشارك القارئ النص في تجربة إبداعية تفاعلية. هنا، لا يكون القارئ مجرد متابع، بل يصبح شريكًا في إعادة إنتاج النص من خلال تأملاته وتفسيراته الخاصة. إنه يمارس فعل الإبداع إلى جانب الكاتب، حيث يضفي على النص معنى جديدًا ينطلق من تجاربه الشخصية، وخلفيته الثقافية، وعمق فهمه للحياة. القراءة العالِمَة هي قراءة تجعل من كل نص عالمًا متجددًا يُعاد اكتشافه مع كل قراءة جديدة.

التماهي بين القارئ والنص

يشير كيليطو إلى أن القراءة العالِمَة تحرر القارئ من وهم الأحداث وتجعله يعيد اكتشاف ذاته من خلال النص. إنها قراءة تذيب الفواصل بين القارئ والنص، حيث يجد القارئ نفسه جزءًا من النص، يعيش بين سطوره ويستمتع بالتفاعل مع كل عبارة وكل صورة بلاغية. في هذا السياق، لا يكون الهدف هو الوصول إلى نقطة النهاية، بل العيش في اللحظة الأدبية والاستمتاع بكل تفاصيلها.

في هذا النوع من القراءة، قد يمر القارئ بتجارب شعورية مختلفة؛ قد يشعر بالغضب، أو الحزن، أو الفرح، وربما يشعر بالدهشة عند اكتشاف معنى خفي لم يكن يتوقعه. إنه نوع من التماهي الكامل، حيث يصبح القارئ جزءًا من العالم الأدبي، لا يكتفي بمتابعته من الخارج. ويعتبر كيليطو أن هذه التجربة هي ما يجعل الأدب فعلًا راقيًا وساميًا، قادرًا على فتح آفاق جديدة في فهمنا للعالم ولأنفسنا.

القراءة العالِمَة كممارسة للتفكر الذاتي

ما يميز القراءة العالِمَة هو أنها لا تقتصر على النصوص الأدبية فقط، بل يمكن أن تنطبق على أي نص، حتى النصوص اليومية أو العلمية. فالقارئ العالِم هو الذي يتوقف عند كل كلمة، يطرح الأسئلة، ولا يقبل الأمور على ظواهرها. إنه يملك رغبة دائمة في البحث عن المعنى الأعمق، ويرى في كل نص فرصة للتفكر والتأمل. القراءة العالِمَة هي تدريب مستمر للعقل، تجعله يقظًا دائمًا، وتساعده على تطوير قدراته في التحليل والاستنتاج.

بين المتعة والفائدة

يبرز كيليطو هنا الفرق بين القراءة التي تهدف إلى المتعة، والقراءة التي تهدف إلى الفهم العميق. القراءة العادية توفر للقارئ متعة فورية؛ فهي تمنحه جرعة من التشويق والإثارة، وتجعله يشعر بالإنجاز عند إنهاء الكتاب. ولكن القراءة العالِمَة تقدم له ما هو أكثر من ذلك؛ إنها تتيح له بناء علاقة طويلة الأمد مع النص، حيث يبقى النص حاضرًا في ذهنه حتى بعد انتهائه، ويحمل معه أسئلة وخواطر ربما تظل ترافقه مدى الحياة.

كيليطو ودعوته للقارئ العالِم

من خلال كتابه “الأدب والغرابة”، لا يقدم كيليطو نصائح حول كيفية القراءة فحسب، بل يطرح دعوة مفتوحة لكل قارئ لكي يصبح قارئًا عالِمًا. إنه يدعو القارئ إلى التفاعل مع النصوص بطريقة جديدة تجعل القراءة وسيلة لاكتشاف الذات وتطويرها. يرى كيليطو أن الأدب ليس مجرد ترفيه، بل هو وسيلة لفهم العالم والذات.

القراءة العالِمَة هي قراءة تمنحنا القدرة على النظر إلى الأمور بعين ناقدة، تجعلنا نرى ما وراء الكلمات، وتمنحنا أداة لاستكشاف عمق النصوص. إنها تجربة تجريبية وفكرية ووجدانية، تجعل من القارئ مشاركًا فعليًا في الإبداع الأدبي، وتجعل من الأدب جزءًا من حياته الحقيقية، وليس مجرد وسيلة لقضاء الوقت.

القراءة كرحلة لا تنتهي

في النهاية، يدعونا كيليطو لأن نرى القراءة كرحلة لا تنتهي، رحلة لا تهدف للوصول إلى مكان معين، بل تهدف إلى الاستمتاع بكل خطوة في الطريق. إنها رحلة تجعلنا نتجاوز سطح النصوص لنغوص في أعماقها، وتجعلنا نكتشف ليس فقط ما كتبه الكاتب، بل ما يمكننا أن نضيفه نحن إلى النص.

القراءة العالِمَة، إذًا، ليست مجرد فعل من أفعال التسلية أو الاستهلاك، بل هي فعل من أفعال الإبداع، تجعلنا ننخرط في عملية خلق متجددة، وتدفعنا لنكون جزءًا من عوالم النصوص وسحرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى