والشهد يا حكيم!
حكاية من التراث من تحرير د. ساجد العبدلي
يُحكى في الأثرِ أنَّ رجلاً كان يَذرَعُ أدغالَ إفريقيا، حيثُ الطبيعةُ الخلَّابةُ والدَّوحُ الباسقُ الذي ينمو بكثافةٍ في تلك البِقاعِ المحاذيةِ لخطِّ الاستواء. كان يَنتَشي بمَرأى الأشجارِ الوارفةِ التي تَحجُبُ سَنا الشمسِ بظلالِها الوَريفة، ويَطرَبُ لتَغاريدِ الطيورِ الشَّادية، ويَستَروحُ شَذا الأزاهيرِ الفوَّاحةِ المُتناثِرةِ في أرجاءِ ذلك الفَضاءِ الفَسيح.
وبينما هو مُستَغرِقٌ في تأمُّلِ ذلك المَشهَدِ البَديع، طَرَقَ سَمعَهُ دَويٌّ هائلٌ يَقتَرِبُ بِوَتيرةٍ مُتَسارِعة، فالتَفَتَ خَلفَهُ ليُبصِرَ لَيثاً مَهيباً يَندَفِعُ نَحوَه، تَلوحُ عليهِ أماراتُ الجوعِ الشَّديد، إذ بَدا نَحيلَ القَوام.
فانطَلَقَ يَعدو مُسرِعاً والليثُ في إثرِهِ لا يَني، وحينَ استَشعَرَ دُنوَّ الخَطَر، لاحَت لهُ بِئرٌ قَديمة، فوَثَبَ إليها مُتَشَبِّثاً بحَبلٍ مُتَدَلٍّ على جانِبِها يُستَخدَمُ لاستِقاءِ الماء. وفيما هو يَتأرجَحُ في جَوفِ البِئرِ مُحاوِلاً استِردادَ أنفاسِهِ وتَهدِئةَ رَوعِه، تَناهى إلى سَمعِهِ حَفيفٌ في قَعرِ البِئر، فأبصَرَ أفعى عَظيمةً ذاتَ رأسٍ عَريضٍ تَتَرَبَّصُ بهِ في الأسفَل، في حينِ كانَ الليثُ الجائِعُ يَترَصَّدُهُ في الأعلى.
وفي خِضَمِّ هذهِ المِحنَةِ البالِغة، لَمَحَ فأرَينِ، أحدُهُما أسوَدُ والآخَرُ أبيَض، يَتَسَلَّقانِ الحَبلَ ويَقرِضانِ أطرافَه، مِمَّا أوغَلَ في رَوعِه. فأخَذَ يَهُزُّ الحَبلَ بِقُوَّةٍ ليَصُدَّهُما عن مَسعاهُما، فتَأرجَحَ جَسَدُهُ بينَ جُدرانِ البِئر، وفَجأةً أحَسَّ بِنَداوةٍ تُلامِسُ ذِراعَه. نَظَرَ فإذا بِشَهدٍ صافٍ يَقطُرُ مِن خَليَّةِ نَحلٍ مَعقودةٍ في جِدارِ البِئر. فمَدَّ يَدَهُ وذاقَ مِنَ الشَّهدِ، فكانَ مَذاقُهُ عَذباً حتى استَغرَقَ في حَلاوَتِه، ذاهِلاً عَمَّا يُحيطُ بهِ مِن مَخاوف.
ثُمَّ هَبَّ مِن نَومِهِ فَزِعاً، إذ كانَ ما رآهُ رُؤيا مُفزِعة. فقَصَدَ حَكيماً ليَقُصَّ عليهِ رُؤياه، مُستَجلياً تأويلَها. فتَبَسَّمَ الحَكيمُ وقال: “أوَلَم تُدرِك مَغزى ما رأيت؟”
فأجابَ الرَّجُل: “كَلَّا.”
فقالَ الحَكيم: “الليثُ المُطارِدُ هوَ مَلَكُ المَوت، والبِئرُ التي تَسكُنُها الأفعى هيَ قَبرُك، والحَبلُ الذي تَتَعَلَّقُ بهِ هوَ عُمرُك، وأمَّا الفأران، الأسوَدُ والأبيَض، فَهُما الليلُ والنَّهار، يَنهَشانِ مِن عُمرِكَ شَيئاً فشَيئاً.”
فسألَ الرَّجُل: “والشَّهدُ أيُّها الحَكيم؟”
فأجابَ بِحِكمة: “هيَ الدُّنيا، حَلاوَتُها تُنسيكَ أنَّ وراءَكَ مَوتاً وحِساباً.”