الإدارةالاتزان الحياتيالاتزان الفكريالوعي الذاتيفلسفة

التخطيط والتحضير: بين النظام والفوضى

في الحياة، نحب أن نشعر بالسيطرة. نرسم الخطط، نحدد الأهداف، ونظن أننا بذلك نمسك بزمام الأمور. لكن الواقع لا يسير بهذه البساطة. دائمًا ما يكون هناك متغيرات، أحداث غير متوقعة، تحديات لم تكن في الحسبان. هنا يكمن الفرق الجوهري بين من يخطط فقط ومن يستعد لكل الاحتمالات.

التخطيط بطبيعته يعتمد على النظام. عندما تخطط، فأنت تفترض وجود تسلسل منطقي للأحداث، وأن كل شيء سيحدث كما توقعته. كأنك تبني جسرًا حجريًا على افتراض أن الأرض تحته صلبة تمامًا، وأن الطقس لن يتغير، وأنه لن يكون هناك زلزال مفاجئ أو فيضان غير متوقع. لكن ماذا يحدث عندما ينهار أحد هذه الافتراضات؟ تنهار خطتك معه، تمامًا كما ينهار الجسر تحت ضغط غير محسوب.

أما التحضير، فهو عقلية مختلفة تمامًا. التحضير يعني أنك تتوقع الفوضى، وتخطط بناءً عليها. بدلاً من بناء جسر حجري ثابت، تبني جسرًا معلقًا بمرونة تسمح له بالتكيف مع الظروف المتغيرة. نرى هذا المبدأ متجسدًا في الطبيعة نفسها – فالأشجار التي تنمو في المناطق العاصفة تطور جذوراً أعمق وأقوى، وتكون أغصانها أكثر مرونة. لم تخطط الشجرة لهذا، لكنها تكيفت مع بيئتها المتقلبة.

يقدم نسيم طالب في كتابه “مضاد للهشاشة: أشياء تستفيد من الفوضى” نظرة عميقة لهذا المفهوم. يشرح طالب كيف أن بعض الأنظمة لا تكتفي بمقاومة الفوضى والاضطرابات فحسب، بل تزداد قوة بسببها. يشبه هذه الأنظمة بالعضلات البشرية التي تنمو وتتقوى عندما تتعرض للضغط المناسب. هذا التحول من مجرد مقاومة التغيير إلى الاستفادة منه هو جوهر التحضير الحقيقي.

التحضير لا يعني التخلي عن التخطيط، لكنه يعني إضافة عنصر المرونة والاستجابة السريعة. يعني أنك لا تفترض أن الأمور ستسير كما خططت لها، بل تتوقع أنها ستنحرف عن المسار، وأنك مستعد دائمًا لتعديل اتجاهك وفقًا للظروف. الأهم من ذلك، يشمل التحضير تطوير المهارات والقدرات الأساسية التي تمكننا من التعامل مع مختلف السيناريوهات. فالشخص الذي يطور مهارات حل المشكلات العامة سيكون أفضل استعدادًا من الشخص الذي يحفظ حلولًا محددة لمشاكل معينة.

إذا نظرت إلى الناجحين في الحياة، ستجد أنهم لا يعتمدون على الخطط الجامدة، بل على التحضير العميق. رائد الأعمال الناجح لا يفترض أن السوق سيبقى ثابتًا، بل يضع في اعتباره التغيرات المفاجئة. الطبيب الناجح لا يعتمد فقط على بروتوكول محدد، بل يكون مستعدًا لمواجهة الحالات الطارئة غير المتوقعة. وحتى في الحياة الشخصية، الأشخاص الذين يتكيفون مع التغيرات هم الذين ينجحون، بينما ينهار أولئك الذين تعلقوا بخطط لم تعد صالحة للواقع الجديد.

تمامًا كما يشير طالب في كتابه، فإن القدرة على التعلم من الاضطرابات والتحديات هي ما يميز الأنظمة القوية. بدلاً من محاولة تجنب الفوضى أو مقاومتها، علينا أن نتعلم كيف نجعلها مصدرًا للنمو والتطور. هذا هو جوهر التحضير الحقيقي – ليس فقط البقاء في وجه التحديات، بل الازدهار من خلالها.

لا تتوقف عن التخطيط، لكنه لا يجب أن يكون سلاحك الوحيد. جهّز نفسك لاحتمالات الفشل، توقع المفاجآت، وتأكد أن لديك استراتيجيات بديلة. قد يتطلب هذا أحيانًا التخلي عن بعض الخطط التي نتمسك بها، لكن هذه المرونة هي ما يميز القادرين على النجاح في ظل الظروف المتغيرة. لأنك إذا بنيت حياتك على افتراض أن كل شيء سيكون منظمًا، فإن أول لحظة فوضى ستكسر كل شيء. لكن إذا كنت مستعدًا للفوضى، فلن يوقفك شيء.

“إذا خططت للنظام فسوف تدمرك الفوضى، وإذا استعددت للفوضى فسوف تنجح في أي ظرف.”


من هو نسيم طالب؟

نسيم طالب

نسيم نيكولاس طالب هو كاتب، باحث، ومحلل مخاطر أمريكي من أصل لبناني، اشتهر بأعماله في مجالات الفوضى، المخاطر، وعدم اليقين. عمل في مجال التمويل والتداول قبل أن يتحول إلى الأكاديميا، حيث ركز على دراسة كيفية تأثير الأحداث غير المتوقعة، المعروفة بـ “البجعات السوداء”، على الأسواق والأنظمة المختلفة. من أشهر كتبه:

• “البجعة السوداء” (The Black Swan)، حيث يناقش تأثير الأحداث النادرة وغير المتوقعة على العالم.

• “مضاد للهشاشة” (Antifragile)، الذي يعرض فكرة أن بعض الأنظمة تزدهر عندما تواجه تحديات واضطرابات بدلاً من أن تتحطم.

• “المخدوع بالعشوائية” (Fooled by Randomness)، الذي يسلط الضوء على كيفية سوء فهم البشر للصدفة والاحتمالات.

يعتبر نسيم طالب من أبرز المفكرين في العصر الحديث فيما يتعلق بعدم اليقين، ويرى أن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على التكيف والاستفادة من الفوضى بدلاً من مقاومتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى