على طريق الشفاء: دليلك للتغلب على الجروح النفسية
إن الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور
في عمق كل واحد منا، تكمن قصص وجروح قد لا تظهر للعيان. البعض منها قد يظن أنه قد نسيه، لكنها بقيت كامنة في أعماقه على مستوى اللا وعي. هذه الجروح الراعفة، سواء بغزارة أو ببطء، تؤثر على كيفية تفاعل الواحد منا مع العالم من حوله. الجروح النفسية، كالجروح الجسدية، تحتاج إلى وقت ورعاية لتشفى، كما أن الوقت لشفائها قد يطول في كثير من الأحيان. وفوق ذلك، فإن الشفاء النفسي يتطلب أكثر من مجرد الوقت؛ فهو يتطلب جهدًا واعيًا وموجهًا نحو تجاوز الجرح والذكرى ومن ثم التحول الشخصي نحو الأفضل.
في هذه التدوينة، سأتناول معكم بعضا من المسارات المتعددة المتاحة للشفاء والتعافي من الجروح النفسية.
أولا، وقبل كل شيء، الاستعانة بالإيمان والممارسات الدينية
يلعب الإيمان والممارسات الدينية دوراً محورياً في تعزيز الشفاء النفسي للعديد من الأشخاص. تساعد هذه الممارسات في الاتصال بالجوانب الأعمق للذات وتوفر إحساساً بالتواصل مع الله سبحانه وتعالى، واستشعار عونه ورعايته، مما يعطي معنى عميقا وغاية كبرى للحياة. هذه الأمور قد تكون حاسمة، لكثير من الناس، في تعزيز القدرة على التغلب على التحديات الشخصية والنفسية. يقول الله عز وجل في سورة الرعد (الآية 28)، ” أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”.
ثانيا، العلاج النفسي
البدء بالعلاج النفسي قد يكون الخطوة الحاسمة في رحلة الشفاء. العمل مع معالج محترف يوفر مساحة آمنة للتعبير عن الذات والتعامل مع الجروح بطريقة منظمة وفعالة. كثير من الناس يرفضون هذه الخطوة لأسباب متنوعة، منها المكابرة أو الظن بأنهم لا يحتاجون ذلك، أو ربما خوفا من النظرة الاجتماعية. لكن الحقيقة هي أن الكثير ممن يعانون من الجراح النفسية سيظلون يعانون ما لم يستعينوا بمتخصص في العلاج النفسي. يقول الأمريكي د. كارل روجرز، مؤسس نظرية العلاج بالتركيز، “ما يُسمع بعمق يتغير”.
ثالثا، التأمل واليقظة الذهنية
التأمل واليقظة الذهنية أدوات حيوية لعلاج الجروح النفسية، فهما يعززان الوعي الذاتي ويمكنان الفرد من مواجهة المشاعر بموضوعية. هذه الممارسات تساعد في تقليل القلق والتوتر، مما يفتح الطريق لتقبل الذات والتحول الشخصي العميق، وبالتالي تحقيق الشفاء النفسي المستدام. يقول الأمريكي د. جون كابات زين، مؤسس برنامج التخفيف من الإجهاد بناءً على اليقظة الذهنية (MBSR) في مركز الطب التكميلي بجامعة ماساتشوستس، ” اليقظة الذهنية لا تغير الحياة التي نعيشها؛ بل تغير العدسة التي نرى من خلالها الحياة”.
رابعا، الرعاية الذاتية
الاهتمام بالنفس، بما في ذلك ثلاثية الاتزان الجسدي، (1) التغذية الجيدة، و(2) النوم الكافي، و(3) النشاط البدني، لا يُعد ضروريًا للحفاظ على الصحة الجسدية فحسب، وإنما كذلك على ذات القدر من الأهمية وربما أكثر تجاه الصحة النفسية. هذه الممارسات تعزز القدرة على التعافي والتكيف، وتساهم في تحسين الحالة العامة للفرد، مما يجعل العناية بالنفس ضرورة أساسية للبقاء وليست مجرد ترف. تقول الكاتبة الأميركية أودري لورد، “إن العناية بالنفس ليست ترفًا، بل هي ضرورة للبقاء”. لورد كانت تشدد على أهمية العناية بالنفس كأداة للحفاظ على الصحة النفسية والبدنية، وكشكل من أشكال التحرر الشخصي.
خامسا، التعبير عن المشاعر
يعد التعبير الإبداعي، مثل الكتابة أو الرسم، طريقة فعّالة لمعالجة المشاعر والتجارب الصعبة. هذه الأنشطة توفر منفذًا للتعبير عن الذات والتفريغ العاطفي، مما يساعد على فهم وتقبل المشاعر العميقة. تستطيع هذه الوسائل تعزيز الشفاء النفسي وتقديم الراحة والتحرر. يقول الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، “الفن لا يُستخدم لتمثيل الخارجي فحسب، بل لتمثيل الداخلي أيضًا”.
سادسا، تحديد الأهداف
إن تحديد الأهداف الممكنة والواقعية يُعد استراتيجية فعالة لبناء الإيمان بالنفس وتعزيز الشعور بالإنجاز. كل هدف يتم تحقيقه يضيف إلى رصيد الثقة الذاتية ويمنح الدافع لمواصلة العمل نحو التحسين والشفاء النفسي والخروج من أسر ذكريات وجراح الماضي، مما يخلق دائرة إيجابية من التقدم الذاتي. يقول المحاضر والمدرب الشهير زيغ زيغر، “إن الأهداف هي الوقود في موقد الإنجازات”.
سابعا، الانضمام إلى مجموعات الدعم
الانضمام إلى مجموعات الدعم يُمكن أن يكون ذا تأثير قوي وإيجابي، حيث يوفر فرصة للتواصل مع أشخاص يمرون بتجارب مشابهة. هذا التفاعل يُسهم في خلق بيئة من التفهم والدعم المتبادل، مما يُعزز الشعور بالأمان والانتماء. تقول هيلين كيلر الكاتبة الأميركية الشهيرة، التي فقدت بصرها وهي طفلة، “إن المشي مع صديق في الظلام أفضل من المشي وحيدًا في النور”.
في ختام هذه التدوينة، أود أن أذكركم بأن الشفاء رحلة فردية ومتفردة، تختلف فيها الأدوات والاستراتيجيات من شخص لآخر. لكن الأهم هو الاستمرار في البحث عن ما يناسبك ويدعم رحلتك نحو العافية والسلام الداخلي. وكما يقول جلال الدين الرومي: “إن الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور”، فلعل جرحك يكون هنا مصدر سعادتك بعد ذلك!
الموقوع ممتاز ومفيد ورائع