ثمة حقيقة مرة يجب علي الاعتراف بها كناشر: لم يعد نجاح الكتاب مرتبطاً بقيمته المعرفية أو عمقه الفكري أو جماليات لغته. صار النجاح – في معظم الأحيان – رهين الماكينة التسويقية وحدها.
المشهد اليوم يبدو مؤلماً: كتب عميقة تختبئ في زوايا المكتبات، بينما تتصدر الواجهات أعمال متواضعة المستوى لمجرد أن كاتبها “مؤثر” أو نجم سوشيال ميديا. وتزداد المأساة عمقاً حين نرى دور النشر نفسها تبحث عن “المؤلف المسوَّق” قبل أن تبحث عن “الكتاب الجيد”. يسألون المؤلف عن عدد متابعيه قبل أن يسألوا عن محتوى كتابه.
أصبح المؤلف مضطراً لأن يكون “مسوقاً” و”مؤثراً” قبل أن يكون كاتباً. عليه أن يبني علامة تجارية و “براند” شخصياً، وأن يظهر في البودكاست، ويكتب التغريدات، ويصور الريلز، ويتفاعل مع متابعيه… وإلا فمصير كتابه الركون إلى الرف الخلفي في المكتبة.
وتأتي ظاهرة “مجاملات المشاهير” لتعمق الجرح. تجد المؤثر يلتقط صورة مع كتاب، يرفقها بعبارات إطراء جاهزة: “لا تفوتكم هذه التحفة”، “من أجمل ما قرأت”، “كتاب سيغير حياتكم”… وغيرها من العبارات التي أصبحت سلعة في سوق المجاملات الثقافية. والمضحك المبكي أن بعضهم لم يقرأ حتى سطراً واحداً من الكتاب الذي يمدحه! إنها مجرد صفقة تجارية: صورة مع الكتاب مقابل مبلغ مالي أو هدية أو مجاملة متبادلة.
النتيجة؟ يهرع آلاف المتابعين لشراء كتاب لا يستحق الورق الذي طُبع عليه، فقط لأن “المؤثر الفلاني” أوصى به. بينما تنام على الرفوف كتب قيمة لم تحظ بـ”بركات” توصيات المشاهير. لقد تحولت “توصيات الكتب” من فعل ثقافي نبيل إلى سلعة تجارية في سوق المصالح المتبادلة.
حدثني قبل أيام صديق ناشر قائلاً بصراحة موجعة: “كتاب متوسط لمؤلف لديه قاعدة جماهيرية، أفضل عندي من كتاب عبقري لكاتب مغمور”. هذه المعادلة المؤلمة تدفع الكثير من المواهب الحقيقية للانزواء، بينما يتصدر المشهد من يجيدون فن التسويق و”البيع” أكثر من فن “الكتابة”.
لا أقول إن التسويق غير مهم، لكن أن يطغى على المحتوى، وأن يصبح المعيار الأول للنجاح، فتلك مأساة ثقافية بكل المقاييس.
متى نعود للقراءة الحقيقية والنقد الحقيقي والتوصيات النابعة من قناعة حقيقية؟
هل بات الحلم بعيد المنال في زمن أصبح فيه كل شيء قابلاً للبيع والشراء… حتى الرأي في الكتب!