في كلّ مرّةٍ أشاهد فيها فيلم توم هانكس: لديك بريد، “You’ve Got Mail” (إنتاج 1998، إخراج نورا إيفرون)- وقد شاهدته كثيرا جدا- تتفتّح أمامي آفاقٌ جديدةٌ للتأمّل في قوة الكلمة المكتوبة وقدرتها على نسج علاقاتٍ عميقةٍ بين البشر، حتى وإن لم يلتقوا وجهًا لوجه. وتمامًا كما يلمع عنوان كتابٍ جديدٍ على رفِّ مكتبتي، يلمع إشعار البريد الإلكتروني في الفيلم، ليصبحا معًا رمزًا لترابط الأفكار والمشاعر عبر حدود الزمان والمكان (IMDb).
في عالم الفيلم، يلتقي جو (توم هانكس) وكاثلين (ميغ رايان) عبر رسائل إلكترونية في زمن الإنترنت البسيط بالتسعينيات، دون أن يدركا أنّهُما متنافسان في تجارة الكتب. هما قطبان مختلفان في النهار: جو يدير سلسلة تجارية ضخمة، وكاثلين تدير مكتبة صغيرة دافئة. لكن في الليل، عندما تنطلق الكلمات عبر الشاشة، يعيشان صدقًا يُعبر عن عمق الذوات الإنسانية بعيدًا عن الأقنعة المهنية. هذا التقابل يُذكّرنا بأنّ الكلمة المكتوبة قادرة على اختزال المسافات وبناء الجسور بين أرواحٍ ما كانت لتلتقي لولا صفحاتٍ وسطورٍ.
بالنسبة لي كناشر، أشعر بتلك الازدواجية يوميًا. على السطح، نحن نبيع الكتب كمنتجات، نراعي حسابات السوق والأرباح، ولكن في العمق، نؤدي دور “حراس الكلمة والروح الإنسانية” – نصون المعرفة والجمال، ونمنح الأجيال القادمة نافذة على ثقافاتٍ وأفكارٍ وربما حيواتٍ أخرى. وهذه الرؤية ليست مجرد كلامٍ انشائي جميل، بل هي مدعومةٌ بأبحاث تؤكّد دور الناشرين في صون الهوية الثقافية، إذ تشير الجمعيّات الدولية مثل International Publishers Association إلى دور الناشر في نقل معارف الشعوب عبر الزمن والحضارات.
تأتي ذروة الفيلم في تلك اللقطات التي تقرأ فيها كاثلين للأطفال، تُحيي بخيالهم عالمًا سحريًا. هنا، تتجلّى قدرات الكتب على تشكيل وعي الأجيال الجديدة، ليس فقط بتقديم المعلومة، بل ببناء عالمٍ داخليّ للطفل، زاخرٍ بالصور والأفكار والقيم. وهذا أيضا ليش مجرد كلام جميل، فالأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (American Academy of Pediatrics) توصي بالقراءة المبكرة للأطفال لتعزيز نموّهم اللغوي والوجداني. في هذا المشهد، لا تكون الكتب مجرد حبر على ورق، بل بذورًا تُنبت خيالًا وتغذي حسّ الفضول والتعاطف. وقد أظهرت دراسات علم النفس الأدبي أنّ التفاعل مع النصوص السردية ينمّي القدرة على فهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم (Kidd & Castano, Science, 2013).
ما يُميّز علاقة المرء بالكتب هو هذا التناقض الجميل في عصر التقنية والسرعة. ففي حين يحلُّ الضوء الأزرق للشاشات محلّ ورق الكتب، ما زال لصوت الصفحات المقلوبة أثرٌ على روح القارئ. بعض الأبحاث، كما نشر في Scientific American، تشير إلى أنّ القراءة الورقية تعزّز الفهم والاستيعاب لدى البعض، مقارنةً بالقراءة الرقمية (Jabr, Ferris. “The Reading Brain in the Digital Age,” Scientific American, 2013). إنّها تجربةٌ حسيةٌ بامتياز، تُضفي على فعل القراءة طقسًا مقدّسًا حميميًا.
في إحدى الحوارات الدافئة بالفيلم، يتساءل جو: “أحيانًا أتعجّب كيف نعيش نصف حياتنا دون أن نعرف الأشخاص الذين سيغيرونها إلى الأبد.” هذه العبارةُ تلخّص حقيقةً تتجاوز سياق الفيلم: كل كتابٍ جديد هو “شخصية محتملة” تستطيع تغيير مسار حياتنا الفكرية والوجدانية. قد تنقلنا جملةٌ من كتاب إلى أفق فكري لم نره من قبل، وقد يفتح مؤلّفٌ صفحةً جديدةً في حياتنا، يغرس فينا فكرةً أو شعورًا يظلّ حاضرًا للأبد.
وفي ختام الفيلم، حينما يقول جو: “لا أريد أن أكونَ رجل أعمالٍ فقط”، تظهر الرسالة الأعمق: الكتب ليست مجرد سلع، والقراءة ليست فعلًا استهلاكيًّا عابرًا. إنّها مشاركة في بناء وعي إنساني مشترك، ومساهمة في حراسة ذخائر العقل والقلب معًا. إنّ ما نقوم به من نشر وتوزيع ليس هدفه الأوحد تعزيز رصيدٍ مالي، بل بناء أرشيف إنسانيّ حيّ، يستطيع كلُّ قارئٍ أن ينهل منه خبرة الإنسان على مر العصور.
في النهاية، كما ربطت رسائل البريد الإلكتروني قلبين متنافرين في فيلم “You’ve Got Mail”، تربط الكتب بين العقول والقلوب عبر الزمان والمكان. لكل كتاب نختاره أو نَنشره أو نقرأه حكاية، ولكل حكاية مفاتيح جديدة تغلق أبواب الظلام وتفتح نوافذ للنور. إنّ فعل القراءة والنشر فعلٌ قيميٌّ بامتياز، يجمع بين التجارة والرسالة، وبين الاحتفاظ بتراث الإنسانية ومدّ جسور التفاهم والتعاطف.
هكذا، عندما أفتح كتابًا جديدًا أو أمضي عقدًا مع مؤلف، أستعيد لحظات الفيلم وأفهم الرسالة: نحن ناقلون للأرواح والأفكار، نُترجم همسات الماضي ونقدّمها هدايا للمستقبل. ففي عالم تسوده السرعة والرقمنة، تبقى الكتب بصمتها، مادّةً حيّةً تبثُّ فينا الأمل والمعرفة والإنسانية.