أدبالاتزان الفكريقراءةكتابةكتبنشر

الترجمة عبر لغة وسيطة… خيانة مضاعفة للنص

أحيانًا أجد نفسي – كناشر – مضطرًا لقبول ترجمة عمل ما عن لغة وسيطة، لا عن لغته الأصلية. في ظاهر الأمر هو حلّ عملي، لكنه في جوهره خطر على صدق النص وروحه. أقولها بوضوح: الترجمة عبر لغة وسيطة هي خيانة مضاعفة.

فالترجمة الأولى بحد ذاتها خيانة أولى للنص، مهما بلغت من أمانة ودقة، لأنها تنقل تجربة لغوية وثقافية من بيئة إلى أخرى. أما حين يُعاد نقل النص المترجم مرة ثانية، فإننا لا نترجم عن الأصل، بل عن رؤية مترجمٍ آخر، أعاد تشكيل النص حسب فهمه وذائقته وحدود لغته. عندها يصبح المترجم الثاني لا يترجم نصًا، بل انطباعًا عن نص. وهكذا يتضاعف البعد بين القارئ والنص الأول، حتى يغدو ما بين يديه ظلًا باهتًا لصورةٍ غابت ملامحها.

ومع ذلك، قد تكون الترجمة عبر لغة وسيطة مقبولة – إلى حدٍ ما – في الكتب غير الأدبية: كتب الإدارة، والعلوم، والتنمية الذاتية، وما شابهها. فهذه الكتب لا تقوم على الخيال أو الإبداع الفني، بل على نقل المعرفة والمفاهيم، وهي بطبيعتها أقل حساسية تجاه الفروق الأسلوبية والذوقية بين اللغات. لكن الأمر مختلف تمامًا في الأدب؛ فالنص الأدبي ليس مجموعة معلومات، بل عالمٌ من الصور والأخيلة، يتنفس بلغة كاتبه. وكلما ابتعدنا عن تلك اللغة، فقد النص جزءًا من روحه، وربما فقدها كلها.

ولأنني أعيش الواقع العملي للنشر، أعرف أن المثالية ليست ممكنة دائمًا. هناك نصوص عظيمة لا سبيل للوصول إليها إلا عبر لغة وسيطة، وحينها يكون دور الناشر هو تقليل الضرر قدر المستطاع: باختيار مترجمٍ متمكّن، ومراجعة دقيقة، وتحرير واعٍ يُعيد للنص بعضًا من ألقه. لكن يبقى في داخلي يقين ثابت: أن الترجمة الحقيقية لا تكون إلا من الأصل، وأن أي طريق آخر – مهما تزيّن بالمبررات – هو طريق إلى نص ناقص الروح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى