«تويتر» سجل الراحلين
أستخدم شبكات التواصل الاجتماعي منذ عدة سنوات، وتزايد استخدامي لشبكة تويتر على وجه الخصوص في السنتين الأخيرتين، وقد تجاوزت الاستخدام التقليدي لهذه الشبكات إلى الحرص على البحث عن والاطلاع على كل ما ينشر حولها، سواء حول استخداماتها وفوائدها وتطور تقنياتها وآفاقها المستقبلية، وأيضاً عن تأثيراتها الاجتماعية والسلوكية والنفسية وغير ذلك. ولا أزال يوماً بعد يوم تتبدى لي فيها وعنها الكثير من الأمور الجديدة التي لم تكن تدور في الأذهان سابقا، بل ولعلها لم تكن لتخطر حتى على بال من قاموا بتأسيس هذه الشبكات.
يحلو لي اليوم أن أنظر إلى شبكات التواصل الاجتماعي وكأنها بالفعل شبكات ممتدة ومكونة من ملايين الخطوط والخيوط، شبكات خام قام المستخدمون أنفسهم بملئها بكل ما لديهم، وأجروا في خطوطها وعلقوا على خيوطها كل ما حلا وبدا لهم، بلا رابط أو ضابط، وهنا يكمن سر قوة هذه الشبكات التي ستتزايد يوما بعد يوم.
الناس في الحقيقة هم من صنعوا نجاح هذه الشبكات، لا الشبكات أو مؤسسيها. ولهذا نجحت فيسبوك ونجحت تويتر ونجحت لينكد إن، وفشلت جوجل بز لتخرج من الخدمة في ديسمبر 2011، وتترنح اليوم جوجل بلس ولا أدري إن كانت ستصمد أو تلحق بمصير أختها، وذلك لأن الناس وجدوا أنفسهم أولا، وقبل أي شيء آخر، في تلك الشبكات، ولم يجدوها، أو لم يجدوا إضافة وشيئا جديداً في الشبكات الراحلة.
الحديث عن أبعاد هذه الشبكات كثير جدا ويطول، ولن أحاول حتى مس أطرافه، لأنه كالبحر المتلاطم، وأعترف بأني ممن يستهويهم هذا البحر كثيراً، وأدرك بأني إن فعلت فلن ألبث حتى أكون قد أبحرت في أبعد مسافاته. لكنني سألمس ساحلاً واحداً منه فحسب.
لعل أغلب من يتابعون أو يستخدمون هذه الشبكات قد صاروا يدركون اليوم بأنها أصبحت تستخدم للتعرف إلى سير الناس، وإلى أفكارهم من خلال ما يكتبونه وينشرونه ويبثونه فيها. صارت جهات العمل في كثير من القطاعات، على سبيل المثال، تحرص على متابعة ما ينشره ويبثه موظفوها في هذه الشبكات، وما كتبه ونشره من يتقدمون للتوظف عندها، وذلك للاطلاع عليهم عن كثب قبل اتخاذ قرار بشأن توظيفهم، وثارت على هامش هذا الأمر الكثير من الدعاوى القضائية في الغرب، ولا أستبعد أنها ستحل بدارنا قريباً. وكذلك، وهذه من الطرائف الحقيقية بالمناسبة، صار كثير من الناس يبحثون في سير المتقدمين للزواج من بناتهم، من خلال هذه الشبكات الاجتماعية، وهناك بالفعل من تم رفض خطبتهم بعدما وجد عليهم ما يشين في فيسبوك أو تويتر!
هذا كله قد صار اليوم معروفاً، وسيصبح أكثر وضوحاً عندنا، أعني في عالمنا العربي، في قادم الأيام ولا شك.
الأمر الذي تبدى لي مؤخراً واستوقفني كثيراً هو أن هذه الشبكات قد أضحت سجلا تاريخياً حافظاً لكل ما يطرحه الناس فيها، في حياتهم كما أسلفت، ومن بعد رحيلهم.
حين يرحل الناس عن هذه الفانية في الماضي، كانوا لا يتركون من خلفهم إلا ما شيدوه وأقاموه، إن كانوا ممن فعلوا ذلك، وكذلك لا يتركون إلا سيرتهم في ذاكرة الأحياء يتناقلونها، إما خيراً وإما شراً. وأولئك القلة الذين كانوا من الكتاب، كانوا يتركون خلفهم ما خطته أقلامهم، كذلك إما خيراً وإما شراً. لكن اليوم تغيرت الأمور جميعا، وصار كل مشارك في هذه الشبكات بمثابة الكاتب. حين يرحل، وكلنا راحلون، سيترك خلفه مئات وربما آلاف الكلمات، لتظل شاهدة عليه أمام الناس، ويا له من أمر مخيف، حيث لم يعد ممكنا المراهنة على ضعف ذاكرة الناس، وأنهم قد ينسون!
شهدت شخصياً خلال السنتين الماضيتين وفاة عدة أشخاص ممن كانوا معنا في الشبكات الاجتماعية، آخرهم بالأمس القريب أخونا وليد السبع من دولة الكويت، وكان الناس في كل مرة يذهبون سراعاً لتصفح وقراءة ما كان كتبه الراحلون في فيسبوك وتويتر، وتناوله وتداوله. في واحدة من الحالات، ومن شدة سوء ما كان تركه الراحل، سعى البعض للتواصل مع شركة تويتر لإغلاق الحساب ومسح التغريدات، فما أفلحوا وللأسف، وفي حالات أخرى كان الناس يعيدون نشر ما كان تركه الراحل من كلمات وعبارات طيبة، وهو ما حصل في حالة الأخ وليد السبع رحمه الله وهو الذي توفي من جراء حادث مروري حدث منذ أيام.
هذه الشبكات الاجتماعية صارت اليوم قطعا أكثر من مجرد وسائط للتواصل، فهي ليست كخطوط الهاتف، بل هي أكثر من ذلك بكثير جداً. إنها سجل سيظل خالداً عبر السنوات الطويلة المقبلة، وسيظل مكشوفاً مشاهداً لكل من سيأتون لقراءته من بعدنا، لذلك فهل سأكون مصيباً إن قلت بضرورة أن يحرص الإنسان على ألا يخط فيها إلا ما كان سيفخر به حيا وميتا؟ اللهم اجعلنا ممن لا يكتبون إلا الخير، وأبعدنا عن كل سوء.
مقال مميز