“فَفِرُّوا إِلَى الله”…

ليستْ صيحةَ نذيرٍ فحسب، بل نداءَ العارفين، الذين أُرهقوا من الركضِ في التِّيه، وأدركوا – آخرَ الأمر – أنه لا فرارَ… إلا إليه.
الفرارُ؟
نعم، لكنْ لا كما يعرفه الناس.
هم يفرُّون مِنْ، ونحن نُؤمَر أن نفرَّ إليه.
كأنَّنا لا ننجو بالهرب، بل بالوصول.
كأنَّ في حَضْرَتِهِ وحدَها، الأمانَ الذي لا يُخذَل.
فِرَّ إليه
منك.
من جفافِكَ، من نَزَقِكَ، من ظنونِكَ الثقيلة، من خطاياكَ التي لا يُنقِّيها ماء، ولا يغسلُها اعتذار.
فِرَّ إليه
من ضيقِكَ، من اختناقِكَ، من وَجَعٍ لم تفهمْهُ، ولا أحسنَ أحدٌ الإصغاءَ له.
فِرَّ إليه
من الذين خَذَلوك، وأولئك الذين ظننتَهم مرافئَ، فكانوا أعاصير.
الفِرارُ إليه لا يعني أنك وَصَلْت،
بل أنك عرفتَ الطريق، ونزعتَ عنكَ أثقالَك، وصرتَ أقربَ إلى حقيقتِكَ، تلك التي أنساكَ الزحامُ ملامحَها.
قال ابنُ القيِّم – وكان قد ذاق –:
“الفِرارُ إلى الله يتضمَّن الإعراضَ عن كلِّ ما سواه، ثم الإقبالَ بالقلبِ والبدنِ عليه”.
هي هجرتانِ في آنٍ واحد:
أن تهجُرَ كلَّ ما يسحبُك إلى الوراءِ،
ثم تهويَ إلى الأمامِ بقلبِكَ كلِّه.
لماذا نفرُّ؟
لأنَّك، مهما أقنعتَ نفسَك أنك بخير،
تعرف أنَّ هناك عطشًا لا يرويه أحد.
وأنك، حين تسكنُكَ الهشاشة،
لن يُغنيكَ عن حِضنِ الله ألفُ منطق.
“إني لكم منه نذيرٌ مبين”
صوتٌ لا يشبهُ سِواه،
لا يطلبُ شيئًا لنفسِه،
بل يُمسكُ يدَك كَي يسحبك عن الحافة.
لأنَّ الفِرارَ هذه المرّةَ لا بدَّ أن يكونَ سريعًا…
فالأرضُ لا تنتظر، والوقتُ لا يصفحُ كثيرًا.
ثمة فرقٌ بين من يفرُّ خائفًا، ومن يفرُّ عارفًا.
الأولُ يريدُ النجاة، والثاني يريدُ الله.
وبين النجاةِ… واللهِ،
مسافةٌ اسمُها: الحُبّ.
فيا قلبُ…
لا تتباطأْ هذه المرّة.
اهربْ،
ولا تلتفتْ.