في كل مرة أجيل فيها النظر في القرآن الكريم، تزداد قناعتي رسوخا بأن هذا الكتاب العظيم، لا يزال، وسيظل، يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلالات التي تنتظر الكشف عنها، تماما كما هو البحر الزاخر، الذي لن ينفك يذهل الغواصين بما سيجدونه ويعثرون عليه في طبقات أعماقه، من الجواهر والغرائب.
أشعر بأن القرآن المجيد تماما كمنظار الكاليدوسكوب، ولكتاب الله المرتبة الأشرف. والكاليدوسكوب، لمن لا يعرفه، منظار عجيب يحوي داخله زجاجا ملونا، حين تنظر من خلاله نحو مصدر من مصادر الضوء، ترى أشكالا هندسية متداخلة ومتراكبة جميلة الرسم والألوان، وكلما أدرته حول محوره، تغيرت الأشكال والتراكيب واتخذت هيئات جديدة مدهشة. والقرآن كذلك، كلما نظرت إليه وتأملت، وجدت نور الله يهديك إلى معان ودلالات جديدة.
وهذا الأمر تعززه حقيقة أن للقرآن مجموعة من كتب التفسير التي كتبها علماء أجلاء، حوت رؤى وتفسيرات مختلفة لكثير من الآيات، مما يدل منطقا على أن المجال لا يزال مفتوحا لمن آتاهم الله أدوات هذا العلم الشريف، أعني علم التفسير، أن ينظروا فيه مرات ومرات ليستخرجوا منه الكثير.
لست من أهل علم التفسير، ولن أدعي أبدا أنني أمتلك الأدوات الكافية التي تؤهلني للخوض في هذا البحر العميق، ولكن لي عقلا متسائلا، لا ينفك يتوقف عند كثير من الآيات ليقلب معانيها على وجوهها، وليدفعني للبحث في كتب التفسير، ولسؤال العلماء عن المعاني والدلالات، عقل صعب المراس عهدته لا يقتنع بالإجابات المبتسرة غير المقنعة.
من السور التي أعود إليها دوما وبشكل متكرر، سورة الكهف، وهي التي سن لنا النبي عليه الصلاة والسلام قراءتها كل جمعة، في الحديث الشهير الذي يقول فيه: “من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين”، وغيره من الأحاديث التي بينت فضل هذه السورة العظيمة.
ومن القصص الأكثر انتزاعا للدهشة مني في هذه السورة، قصة سيدنا موسى عليه السلام في لقائه بالعبد الصالح الذي آتاه الله رحمة وعلمه من لدُنْه عِلماً، تلك القصة الغرائبية التي تحدثت عن مرافقة سيدنا موسى لهذا العبد الصالح في رحلته، بعدما حذره مرارا بأنه لن يصبر على ما سيراه منــه فيها، وعــاد فوافــق بعدما وجد من موسى الإلحاح، مشترطا عليه أن لا يسأله عن أي شيء يراه يقوم به، حتى يحدث له منه خبرا.. وكيف أن سيدنا موسى، وبالرغم من هذا التحذير، لم يتمالك نفسه عن السؤال في ثلاثة مواضع رآه فيها يأتي بأعمال تتجاوز حدود الفهم والمنطق، فلم يطق معها الصبر، لتنتهي رحلتهما المشتركة بالفراق عند تلك الآية المعروفة، التي جاءت على لسان العبد الصالح: «قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا».
في هذه القصة بالذات، يرد وكما جاء في الآية: «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا»، وعندما شاهد سيدنا موسى هذا الفعل المنكر من العبد الصالح، لم يستطع السكوت فسأل عن سبب هذه الفعلة المنكرة، فأجابه العبد الصالح في نهاية الرحلة عندما تفارقا، قائلا له:«وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا».
في هذا الموضع لطالما تساءلت؛ لماذا أمر الله العبد الصالح بقتل الغلام؟ ولماذا لم يكتفِ الله بهدايته عن درب الطغيان والكفر إلى الهدى والصلاح والرشاد فيتحقق المراد، ولا يرهق أبويه الصالحين، والله أصلا من خلقه على شاكلة الطغيان والكفر؟!
هذه القصة، وبحسب ما جاء في القرآن، لا تظهر لنا إلا وجها واحدا من وجوهها، ولكن للقصة بطبيعة الحال وجها آخر لم يرد ذكره، وهو الوجه المتمثل في حال الأبوين عند اكتشافهما لمقتل ابنهما الصغير، الذي لم يريا منه حتى تلك الساعة أي شيء من الطغيان والكفر. هل لنا أن نتخيل شكل فجيعتيهما في تلك اللحظة وحجمها، ومقدار الألم في نفسيهما وهما يريان ابنهما الصغير، تلك النفس الزكية كما وصفها النبي موسى، مقتولا؟!
إذن، فهذه القصة ليست مجرد مشهد عابر شاهده النبي موسى، ليتعلم منه الدرس بأن هناك عبدا صالحا آتاه الله علما يفوق علمه، وهو الذي كان قد قال لقومه من بني إسرائيل بأنه لا يوجد من يتجاوزه علما، بل إن هذه القصة ملحمة إنسانية ذات أبعاد أخرى لم يظهرها القرآن صراحة، ولكن فيها من المعاني والعبر الشيء الكثير الذي يحتاج منا تدبره والتأمل فيه.
ترانا لو قلنا اليوم لأي أب أو أم، بأن فجيعته بموت طفله الصغير، لا سمح الله، قد تكون في واقع الأمر رحمة من الله، هل تراه سيتقبل الأمر؟ لا أظن ذلك، وهذا تماما حال الأبوين في قصة سيدنا موسى والعبد الصالح بعد مقتل الغلام ابنهما، وهما اللذان لم يخبرهما أحد شيئا أصلا. لكن هذا الدرس العظيم يرينا وبوضوح، كيف أن مِنَح الله قد تأتي عبيده في ثياب أعظم الفواجع وأصعبها على النفس، وأن العذاب الشديد قد يحمل في باطنه الرحمة العظيمة، تماما كقصة هذا الغلام.
مقالي هذا يحمل دعوتين؛ الأولى دعوة للتبصر والتأمل أكثر في كتاب الله، هذا الكتاب العظيم الزاخر، وكذلك هي دعوة لإحسان الظن بقدر الله دائما وأبدا، مهما اشتدت علينا الخطوب والآلام، حمانا الله جميعا من كل الشرور.