عامفكري

أن تكتب رواية!

كلما نشرت كتابا أجد من يسأل متى سنرى روايتك الأولى؟! في السابق، كنت أستغرب من تكرار هذا السؤال، لكن أظنني عرفت السبب الآن.

الرواية قد أصبحت اليوم وبحق “ديوان العرب”، بل ديوان العرب والعجم على حد سواء، فأكثر الكتب التي تدفع بها المطابع إلى الأسواق يوميا في كل العالم من أقصاه إلى أقصاه هي من جنس الرواية، حتى أضحت الأكثر انتشارا والأكثر حظوة باهتمام الصفحات الثقافية والأدبية، وصار كاتب الرواية لذلك هو الأقرب إلى خطف الأضواء واستجلاب بريق الشهرة، وغدا كل من يدخل إلى عالم الكتابة لا يستهويه في المقام الأول إلا كتابة الرواية!

هذا الانتشار والاهتمام بجنس الرواية، والبروز الواضح لكتابها، خلق انطباعا، لدى العامة على الأقل، بأن كتابتها ليس بالأمر الصعب بالمقارنة مع غيره، فقصارى الأمر في نظرهم أنها مجرد حكاية، حقيقية كانت أو مختلقة، ينسجها ويصوغها الكاتب وهو جالس لا يبرح مكانه بلا كثير تحضير ولا عسير تجهيز ولا حاجة لبحث عن مصادر أو تنقيب عن معلومات، وحسبه أن صاحبها يمتلك مقدرة على اختلاق الأحداث وصفّ الكلام وتطويع الكلمات وربما زخرفتها!

لكن الحقيقة أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. الرواية الحقيقية منتج أعمق وأعظم بكثير من هذه الفكرة التسطيحية الهشة، ما يتم إنتاجه بهذه الطريقة الساذجة، لن أقول إنه روايات غير جيدة، بل سأقول إنه ليس من الرواية في شيء، بل حسبه أنه مجرد حكايات أو كما نقول في الدارجة “سوالف، وخثاريق”. الرواية التي يمكن لأحد أن يسرد كل أحداثها فيتوقف عند عموم مفاصلها ومستوياتها من خلال حديث يحكيه ليست رواية، الرواية التي يمكن أن تغني مشاهدة فيلم، مهما كان رائعا، عن قراءتها ليست رواية. الرواية التي يمكن أن يمر القارئ عليها مرور الكرام دون أن تشاغب طبقات عقله أو أن تهز أبعاد كيانه أو أن تنشب أظفارها في صميم عاطفته ليست رواية. هذه نظرتي للمسألة،

ولذلك أؤمن بأن أغلب ما تدفع به المطابع، وسأقول المطابع العربية على وجه التحديد، مما يسمى تجاوزا روايات، ليس من الروايات في شيء وإنما هو شيء آخر، لعله حكايات وسوالف وخثاريق أو ربما شيء آخر لا يهمني ولا يعنيني ما هو. وحين أقول هذا، فلست أقول إن هذه “المطبوعات” ليست ممتعة أو لا تستحق القراءة، فبعضها مسلّ وظريف وفيه شيء ما، لكنها ليست روايات في تقديري، ولهذا السبب فحين يبادرني أحدهم بذلك السؤال: متى ستكتب رواية؟ يعتريني الخوف من مجرد التفكير في التجربة، لأني لا أفكر في إنتاج “حكاية”، إنما في إنتاج “رواية حقيقية”، وهذه تحتاج إلى الكثير والكثير جدا من كاتبها.

الرواية في مقامها الأول فكرة لا أقل من أن تكون غير مسبوقة كي تتميز عن غيرها على مستوى التناول والعرض والمقاربة، وفي مقامها الثاني تجربة إنسانية لابد من أن تكون عميقة وكثيفة حتى تضيف للقارئ شيئا ما وتلامس وجدانه، وفي مقامها الثالث باقة منتقاة من المعلومات والمعارف المنسوجة بذكاء وبحس أدبي فائق ينجيها من أن تسقط في فخ التقريرية والإنشائية، وفي مقامها الرابع صياغة أدبية جميلة يمكن لها أن تبقي القارئ مستمتعا طوال رحلته بين صفحاتها.

الرواية كائن حي لأنها تقدم للقارئ قطعة من الحياة النابضة بأحداث وحوارات وأفكار ومشاعر أبطالها، من أشخاص وأماكن وأزمان، الرواية التي تعجز عن أن تقدم هذا الخليط الحي المتجانس هي جماد ميت ولذلك ليست رواية! لهذه الأسباب لا أدري متى سأكون قادرا حقا على إنتاج شيء كهذا، هذا إن كان مقدرا لي أصلا أن أنتجه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى