اجتماعيالاتزان الحياتيعاطفيعاممالي

المجسَّمات الصغيرة في آسيا: قصةُ شغفٍ تتجاوز حدود العمر والزمن

من جديد، كنت في زيارة إلى رحاب دولة سنغافورة، تلك الجوهرة الآسيوية المتألقة، التي تزداد تألقا مع كل زيارة لها.

مما أود الحديث عنه هذه المرة ظاهرةٌ أقف عندها في كل زيارةٍ لي لهذا البلد الجميل: إقبالُ الناس الملحوظ على محلات بيع المجسمات الصغيرة. هذا المشهد المتكرر أثار فضولي، فعزمت على سبر أغواره والغوص في تفاصيله.

بعد البحث والتقصي عبر الشبكة، تبيَّن لي أن هذه المجسمات الصغيرة، أو ما يُعرف بـ “action figures”، تحظى بشعبيةٍ واسعةٍ في القارة الآسيوية عامةً، وليس في سنغافورة فقط. وهي ليست مجرد دُمى للأطفال، بل هي جزءٌ من ثقافةٍ أوسع ترتبط بعوالم الأنمي والمانغا وألعاب الفيديو التي نشأت في اليابان، ثم امتدَّ تأثيرها ليشمل أرجاء المعمورة.

يعود تاريخ المجسمات الصغيرة الحديثة إلى عام 1964م، حين أطلقت شركة “Hasbro” الأمريكية أول مجموعةٍ من مجسمات “G.I. Joe”. بيد أن الطفرة الحقيقية في آسيا بدأت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، مع ظهور سلسلة “Gundam” عام 1979م، التي قدَّمت مجسمات الروبوتات المفصَّلة والقابلة للتجميع.

في اليابان، تُعَدُّ شركة “Bandai”، التي تأسست عام 1950م، من أهم الشركات في مجال إنتاج المجسمات الصغيرة. أطلقت الشركة خط إنتاج “Chogokin” عام 1974م، الذي اشتهر بمجسمات الروبوتات المعدنية عالية الجودة. كما أن شركة “Good Smile Company”، التي تأسست عام 2001م، أصبحت لاعباً رئيساً في السوق مع خط إنتاجها الشهير “Nendoroid” الذي بدأ عام 2006م.

ومما يثير الدهشة أن الإقبال على هذه المجسمات لا يقتصر على فئةٍ عمريةٍ معينة، بل يتجاوز عالم الطفولة ليشمل الشباب والكهول على حدٍّ سواء. فقد تجد في هذه المحلات أفراداً في العشرينات والثلاثينات من العمر، بل وأكبر من ذلك، يتصفحون المجسمات بشغفٍ، باحثين عن شخصياتهم المفضلة من عوالم الأنمي أو الأفلام. وهذا يعكس ارتباطاً عاطفياً وثيقاً بين هؤلاء الأشخاص وتلك الشخصيات التي غالباً ما تمثل جزءاً عزيزاً من ذكريات الصِّبا والشباب.

ومن العوامل التي تُسهم في رواج هذه المجسمات جودةُ تصنيعها العالية والتفاصيل الدقيقة التي تتميز بها. ففي الأسواق الآسيوية، تُعدُّ هذه المجسمات قطعاً فنيةً، وليست مجرد لُعَبٍ للأطفال. إذ يعتمد تصنيعها غالباً على تقنياتٍ متقدمةٍ وتصاميم فنيةٍ محترفة، مما يجعلها محط أنظار المقتنين وهواة الجمع.

تعود جذور هذه الثقافة إلى عالمَي المانغا والأنمي الياباني. فعلى سبيل المثال، سلسلة “Dragon Ball” التي بدأت عام 1984م من قِبَل الرسام أكيرا تورياما، وسلسلة “Naruto” التي انطلقت عام 1999م من قِبَل ماساشي كيشيموتو، أصبحت شخصياتهما رموزاً عالميةً وموضوعاً شائعاً للمجسمات.

علاوةً على ذلك، تحوَّلت هذه المجسمات إلى نوعٍ من الاستثمار لدى بعض المقتنين. فعلى سبيل المثال، في عام 2019م، بيع مجسمٌ نادرٌ لشخصية “Boba Fett” من سلسلة “Star Wars”، يعود إنتاجه إلى عام 1979م، بمبلغٍ قدره 185,850 دولاراً أمريكياً في مزادٍ علني، مما يبرهن على القيمة الاستثمارية المحتملة لهذه القطع.

تُعَدُّ ندرة بعض المجسمات عاملاً رئيساً في تحديد قيمتها؛ فالمجسمات التي تُنتَج بكمياتٍ محدودةٍ أو تلك التي تُصنع بمواصفاتٍ خاصة قد تصل أسعارها إلى آلاف الدولارات. فعلى سبيل المثال، أصدرت شركة “Hot Toys”، التي تأسست في هونغ كونغ عام 2000م، مجسماتٍ محدودة الإصدار لشخصيات “Marvel” و”DC Comics”، والتي غالباً ما تُباع بأسعارٍ تتجاوز ألف دولارٍ للقطعة الواحدة.

ختامًا، يمكن القول إن إقبال الناس في سنغافورة وآسيا عموماً على محلات بيع المجسمات يعكس ثقافةً عميقةً مرتبطةً بتقدير الفن، والارتباط العاطفي بالشخصيات الخيالية التي أثَّرت فيهم على مر السنين. إضافةً إلى ذلك، فإن السوق المتنامية لهذه المجسمات النادرة تعكس تطور مفهوم اقتنائها من مجرد هوايةٍ إلى مجالٍ استثماريٍّ واعدٍ يمكن أن يكون مجزياً للغاية.

وهكذا، تبقى هذه المجسمات الصغيرة شاهدةً على تلاقح الثقافات وتمازج الفنون، وتظل محط اهتمام الصغار والكبار على حدٍّ سواء، مجسِّدةً في طياتها قصص الخيال وأحلام الطفولة وذكريات الشباب، لتبقى خالدةً في قلوب محبيها ومقتنيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى