حين يسكننا الفضول: ملامح الطريق إلى العبقرية

ما الذي يجعل بعض البشر يخرجون من الصفّ الطويل للحياة العادية، ليتركوا أثرًا خالدًا يغيّر وجه التاريخ؟
هل هو الذكاء المفرط؟ أم الحظ العابر؟ أم أنّ هناك خيوطًا خفية تنسج ما نسميه “العبقرية”؟
في كتابه “العادات الخفية للعبقرية”، يحاول البروفيسور كريغ رايت أن يقترب من هذا اللغز. يرفض أن يُرجع العبقرية إلى معدّل ذكاء مرتفع أو إلى موهبة فردية معزولة، ويرى أنها بناء معقّد من عادات وسمات، يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان. يضع أمامنا صورًا من حياة دافنشي وأينشتاين وموزارت وبيكاسو وستيف جوبز، ليقول إنهم لم يكتفوا بأن يكونوا أذكياء، بل كانوا مختلفين في نظرتهم، في فضولهم، وفي قدرتهم على كسر القوالب.
ليوناردو دافنشي عاش حياته وكأنه طفل لا يكفّ عن الأسئلة، يدوّن ملاحظاته عن حركة الماء وظلال الضوء كما لو أن العالم كتاب مفتوح بانتظار قارئ متأمل. أينشتاين لم يكتفِ بالتجارب المخبرية، بل صنع من خياله مختبرًا لا نهائيًا، يتخيّل فيه نفسه راكبًا شعاع ضوء. ستيف جوبز رأى في التقنية جمالًا ممكنًا، فحوّلها من أجهزة باهتة إلى قطع فنية تحاور الإنسان قبل أن تخدمه. هؤلاء جميعًا تشاركوا سمة واحدة: رؤية العالم لا كما هو، بل كما يمكن أن يكون.
الخلاصة التي يسوقها الكتاب أن العبقرية ليست قدرًا يهبط على قلة محظوظة، بل هي عادة إنسانية قابلة للتغذية. عادة الفضول الذي لا يهدأ، وعادة الانغماس الكلي في الفكرة حتى تتحوّل إلى مشروع، وعادة التمرد على ما هو مألوف. إنها القدرة على أن تفشل ألف مرة وتعتبر كل فشل خطوة في طريق الاكتشاف. العبقرية ليست جدارًا يفصل “العظماء” عن الناس، بل نافذة يطلّ منها من يملك الجرأة على أن ينظر أبعد من الآخرين.
ولعلّ الدرس الأهم أننا جميعًا نملك بذرة عبقرية ما، تنتظر لحظة الإيمان بها. قد تكون في حقل علمي، أو في موسيقى، أو في كتابة، أو حتى في بناء حياة أكثر صدقًا مع الذات. المهم أن نسقيها بالفضول، ونغذّيها بالشغف، ونحرسها من الخوف.
وكما يقول كريغ رايت في جملة مكثّفة:
“العبقرية ليست ما تملك، بل ما تجرؤ على أن تفعله بما تملك.”




