حدائق Hama-rikyu: واحة روحانية في قلب طوكيو المشمسة
بعد رحلة السماء في Tokyo Skytree، كان لا بد من موعد مع الأرض. من ارتفاع ٦٣٤ متراً إلى مستوى البحر، من صخب المدينة إلى سكينة التاريخ في حدائق Hama-rikyu.
عند البوابة، يستقبلك النظام الياباني المعهود – لوحات إرشادية واضحة، تذاكر منظمة، وابتسامات ودودة. لكن ما إن تخطو خطواتك الأولى في الحديقة، حتى تنتقل إلى عالم آخر تماماً.
هنا، في هذه البقعة التي تمتد جذورها لأكثر من ٣٠٠ عام، تتنفس تاريخ اليابان العريق. كانت في الأصل حديقة خاصة لعائلة توكوغاوا، أقوى عائلات الشوغون التي حكمت اليابان خلال فترة إيدو (١٦٠٣-١٨٦٧). موقعها الاستراتيجي على الخليج جعل مياه البحر تتصل ببحيراتها، مما جعلها مكاناً مثالياً للصيد وأنشطة الترفيه للطبقة الحاكمة. وبعد عصر الشوغون، انتقلت للعائلة الإمبراطورية، قبل أن تصبح متنزهاً عاماً في عام ١٩٤٦. ورغم الأضرار التي لحقت بها خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن عناية اليابانيين أعادت إليها رونقها القديم.
في هذا اليوم المشمس، بدت الحديقة كلوحة يابانية تقليدية متحركة. أشعة الشمس تتخلل أغصان الأشجار العتيقة، تاركة ظلالاً متراقصة على الممرات. نسمات الهواء العليل تداعب أوراق الأشجار، تصاحبها سيمفونية طبيعية من زقزقة الطيور وصوت الأسماك تتقافز في البحيرات المالحة.
هنا، في هذه الواحة التقليدية، تجد الحياة اليابانية بكل تفاصيلها. مزارع يعمل بتأنٍ وصبر، يستصلح قطعة من الأرض ويسقيها بعناية تقليدية. حركاته المدروسة تعكس علاقة عميقة مع الطبيعة، علاقة صقلتها قرون من التقاليد اليابانية في رعاية الحدائق.
في ركن هادئ، مجموعة من الشباب يتدربون على فنون قتالية، حركاتهم المنضبطة تنسجم مع روح المكان. وعلى مساحات العشب الأخضر، يستلقي بعض الزوار يتأملون السماء الزرقاء من بين أوراق الشجر، يستمتعون بدفء الشمس ونسيم الحديقة.
كبار السن يتجولون بهدوء على الممرات المنظمة، يتوقفون بين الحين والآخر على المقاعد الموزعة بعناية، يتأملون البحيرة، يلتقطون صوراً للطبيعة. إيقاعهم الهادئ يضيف طبقة أخرى من السكينة للمكان.
وسط هذا المشهد المتناغم، حان وقت الصلاة. البحث عن مكان لأداء الظهر والعصر كان سهلاً في هذه المساحات المفتوحة النظيفة. وجدت ركناً هادئاً، حيث امتزجت خشوع الصلاة مع صوت الطيور وحفيف الأشجار. لحظات روحانية خاصة، والزوار من حولي يحترمون هذه اللحظات بطبيعتهم المهذبة.
المشهد في Hama-rikyu يقدم تناقضاً جميلاً – خلف الأشجار التقليدية تلوح ناطحات السحاب، تذكير دائم بأننا في قلب طوكيو الحديثة. لكن الضجيج لا يصل إلى هنا. كأن هذه الحديقة، التي كانت يوماً ملكاً للشوغون، تحمي زوارها بجدار سحري من صخب المدينة.
كل شيء في الحديقة يجري بإيقاع خاص – المزارع في عمله المتأني، الشباب في تدريباتهم، كبار السن في جولاتهم، المستلقون على العشب في تأملاتهم. كل في مساحته، بلا تداخل أو إزعاج، في درس ياباني آخر عن فن التعايش والاحترام.
في Hama-rikyu، يحافظ اليابانيون على قطعة من تاريخهم وسط زحام العاصمة. البحيرات المالحة تتغير مع المد والجزر، تذكير دائم بعلاقة المكان العميقة مع البحر. هذا التغير البطيء في مستوى المياه يضيف بُعداً آخر لفلسفة المكان – كل شيء في حركة مستمرة، لكنها حركة هادئة، متأنية، تحترم إيقاع الطبيعة.
قبل مغادرة الحديقة، جلست على أحد المقاعد الخشبية أتأمل المشهد للمرة الأخيرة. في قلب واحدة من أكثر مدن العالم حداثة وازدحاماً، استطاع اليابانيون الحفاظ على هذه الواحة التقليدية. ليست مجرد حديقة تاريخية، بل هي مساحة حية تجمع الطبيعة والإنسان والتاريخ في تناغم نادر.
وبينما أتجه نحو البوابة، أدركت أن Hama-rikyu ليست مجرد وقفة بين معالم طوكيو السياحية. إنها درس في كيفية خلق السلام وسط الفوضى، وكيف يمكن للتقاليد أن تستمر وتزدهر في قلب الحداثة. درس آخر من دروس اليابان التي لا تنتهي.