اجتماعيالاتزان الاجتماعيالاتزان الحياتي

النظام والفوضى: تأملات في شيبويا

كثيرة هي المدن التي حطت بها رحالي. من صخب نيويورك إلى رفاهية دبي، ومن حداثة سنغافورة إلى عراقة موسكو. تنقلت بين باكو وغيرها من المدن. لكن طوكيو… طوكيو مختلفة.

وها أنا في شيبويا، أول معالم رحلتي في هذه المدينة العجيبة. أرقب المشهد من شرفة شاهقة مطلة على التقاطع الشهير، حيث تتراقص الأضواء الملونة على ناطحات السحاب، وتتصادى أصوات الإعلانات العملاقة في المكان.

ما يأسر النظر حقاً هو ذلك التدفق البشري المتواصل. هنا تمر شابة يابانية مسرعة في بدلتها الرسمية، تنظر لساعتها كل بضع ثوان. وهناك سائح يتمهل في مشيته، يلتقط الصور بعينيه قبل كاميرته. عجوز يتهادى في خطواته المتأنية، يتأمل المكان وكأنه يراه للمرة الأولى رغم أنه ربما مر به آلاف المرات.

أراقب وجوههم وأتساءل: إلى أين يمضي كل منهم؟ ما هي قصته؟ ما الذي يدفعه للإسراع أو التمهل؟ وأجد نفسي أفكر في حركة البشر منذ فجر التاريخ – دائماً يسعون، دائماً في حركة. من رحلات الصيد الأولى إلى استكشاف القارات، ومن طرق الحرير القديمة إلى ممرات المترو الحديثة.

عند الإشارة الحمراء، يتوقف الجميع. المستعجل والمتمهل، المحلي والسائح، الشاب والعجوز – كلهم ينتظرون في صف منتظم. وما إن تتحول الإشارة إلى خضراء، حتى يعبر الآلاف التقاطع في لحظة واحدة، في مشهد يجمع بين الفوضى والنظام بطريقة لم أرها في أي مكان آخر.

وسط هذا المشهد المتناقض، أتأمل كيف أن سعي الإنسان لم يتغير عبر آلاف السنين. تغيرت الوسائل والأدوات، تبدلت الغايات والمقاصد، لكن تلك الحركة المستمرة، ذلك السعي الدؤوب، ظل ثابتاً.

ما زال اليوم في بدايته، وما زالت طوكيو تحتفظ بالكثير من أسرارها. لكن هذا المشهد في شيبويا علمني درساً عميقاً عن الإنسان وسعيه الأبدي، وعن ذلك التناغم العجيب بين النظام والفوضى في حياتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى