أدبالاتزان الفكريكتابة

الناقد الداخلي: الصوت الذي يهمس دائمًا “لستَ كافيًا”

هل شعرت يومًا أن كل ما كتبته لا يليق بك؟

أن كلماتك – رغم صدقها – لا تزال ضعيفة، مترددة، لا تستحق النشر؟

أن ما تكتبه لا يُعبّر عنك تمامًا… ولا يُرضي الناقد الذي يسكن داخلك؟

أنا أعيش هذا الآن.

أكتب كتابًا جديدًا بعنوان البصائر اليابانية، عن رحلتي إلى اليابان في يناير الماضي. ورغم أنني عدت محمّلًا بتجارب وأفكار نادرة، وكنت أظن أن المشروع سينضج بسرعة، إلا أنني بعد كل فصل أكتبه، أعود وأحذفه. أعيد الصياغة. أعيد القراءة. ثم أعود للتشكيك. لا لأن النص سيئ، بل لأن صوتًا داخليًا يلحّ عليّ بأنه لا يرقى. صوتٌ يعرف تمامًا أين يطعن: “هذه التأملات سطحية… الفكرة مستهلكة… هل هذا فعلًا أفضل ما لديك؟”

ذلك الصوت الخفي، المتقن في التوقيت، هو ما يُعرف بالناقد الداخلي. لكن في الواقع، هو أكثر من مجرد صوت. إنه خيال مألوف، وجه بملامحك، يجلس معك في كل لحظة قرار، ويُشكك بكل شيء. لا يصرخ، فقط يوشوش. ولا يُسقِطك دفعة واحدة، بل يُفككك بهدوء، فكرةً بعد فكرة، حتى تفقد يقينك بنفسك.

يظهر عادة في اللحظات الفاصلة، حين تهمُّ بنشر فكرة، أو الشروع في مشروع، أو تقديم نفسك للعالم. يأتي متخفيًا في هيئة الحرص والواقعية، لكنه في العمق هو خوف. خوف من الفشل، من الانكشاف، من أن تكون مجرد مصادفة ناجحة لا أكثر. وفي مرات كثيرة، لا يقول لك إنك محتال، بل يُقنعك أنك لا تستحق مكانك، ولا يليق بك ما وصلت إليه.

هذا الصوت لا يأتي من فراغ. قد يبدأ من تربية صارمة، أو مقارنة مزمنة بالآخرين، أو حتى تجربة واحدة موجعة تشككك في قدراتك. ومع الوقت، يتحول إلى جزء من نظامك الداخلي، حتى تظنه جزءًا من وعيك، بينما هو في الحقيقة… سوط مزروع في الداخل.

ما ساعدني في مواجهته لم يكن الصراخ عليه أو محاولة إسكاته، بل الإصغاء له، بوعي، ثم مساءلته. أقول له: “من أين أتيت؟ هل ما تقوله نقد بنّاء؟ أم جلد ذات لا يفيد؟” كثيرًا ما أكتشف أنه مجرد خوف متنكر.

أصبحت أذكر نفسي أن الكمال لا يسبق النجاح، بل يتشكل على الطريق. أن النص غير الكامل ليس عيبًا، بل بداية. أن المحاولة المترددة أصدق من الجمود. وأن كثيرًا من الكتّاب العظماء لا يقرؤون أعمالهم بعد النشر، لأنهم يخشون من أن يخذلهم النص.

وأتعلم أن الخطأ جزء من الرحلة، وأن لحظات التردد أو النسيان لا تُقلل من قيمة الإنسان ولا من عمق تجربته. نحن لا نُختزل في تعثّرٍ عابر أو لحظة ارتباك. بل في قدرتنا على العودة من تلك اللحظة بفهم أوسع ونفسٍ أهدأ.

ذلك الصوت؟ سيبقى. لكنه لا يملك القرار. هو مجرد مستشار سلبي، أما القيادة فهي لنا.

وإذا سمعت هذا الصوت يومًا، لا تتراجع، بل تبسّم، وقل له: “أنا أراك… لكني لن أتوقف هذه المرة.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى