الاتزان الحياتي

القراءة بين الخصوصية والضجيج الرقمي

في السنوات الأخيرة، تحولت القراءة من فعلٍ هادئ إلى مشهدٍ عام. امتلأت وسائل التواصل بقوائم “قراءات أكتوبر”، و“قراءات سبتمبر”، و“أغسطس”، وبقية الشهور، وبتدويناتٍ عن “أفضل ما قرأت هذا العام، وهذا الشهر، وهذا الأسبوع، بل وحتى هذا اليوم!”، وصور الأغلفة إلى جانب فناجين القهوة، واللاتيه، والماتشا (وبعض أكواب الشاي). ومن الطبيعي أن يرى البعض في هذه الظاهرة بادرة إيجابية، إذ تُشيع روح القراءة وتشجع على دخول عالم الكتب، بل إنها أصبحت مصدر رزقٍ للبعض ممن يراجعون الكتب ويعرضونها بالتعاون مع دور النشر والمؤلفين. كل هذا مفهوم ومشروع ضمن منطق العصر الرقمي وثقافته التشاركية.

غير أن وراء هذا المشهد المضيء وجهًا آخر أكثر خفاءً وصدقًا.
إذا عدنا، يا سادتي، إلى جوهر القراءة، سنجد أن حقيقتها تختلف عن هذا المشهد العام. القراءة في أصلها علاقة خاصة جدًا، لا تقبل القسمة أو المشاركة. هي مساحة داخلية يُعيد فيها الإنسان ترتيب نفسه، ويتعامل مع النص كما يتعامل مع فكرةٍ تسكنه لا كشيءٍ يعرضه. هي طقسٌ يتكوّن من تفاصيل صغيرة لا يراها أحد: كيف يمسك بالكتاب، متى يتوقف، كيف يُعلّق على الهامش، ومتى يعود إلى جملةٍ شعر أنها تُخاطبه شخصيًا.

تحويل هذه العلاقة الحميمية إلى عرضٍ اجتماعي يغيّر طبيعتها. فحين تُقاس القراءة بعدد الكتب وسرعة القراءة، تُختزل التجربة إلى كميةٍ قابلةٍ للمقارنة، بينما جوهرها تجربةٌ داخلية غير قابلةٍ للقياس. من يقرأ حقًا لا يبحث عن التصفيق أو المتابعة، بل عن ذلك الاتساع الداخلي الذي تمنحه فكرة، أو جملة، أو لحظة صمت بين صفحتين. القراءة ليست رياضة تنافسية، ولا ساحة عرضٍ للذوق، بل وسيلة للبناء الذاتي وإعادة التشكّل من الداخل.

أما نقل الفوائد والمعارف إلى الآخرين، فهو عملٌ آخر، مرحلة لاحقة على القراءة، لا جزء منها. التعليم والنشر والانطباع العام تأتي بعد اكتمال التجربة الشخصية، لا أثناءها. لأن القراءة في لحظتها فعلٌ فردي خالص، لا يحتمل أن يُختصر في صورة أو تعليق أو رقم في تحدٍ سنوي.

ربما لا يمكن إنكار أن التحولات الرقمية أضافت بعدًا جديدًا إلى مفهوم القراءة، لكنها في الوقت ذاته فرضت على القارئ تحديًا من نوعٍ مختلف. فالقارئ اليوم يعيش بين عالمين: عالم الخصوصية الذي يُبنى فيه الوعي بهدوء، وعالم المشاركة الذي يُستعرض فيه هذا الوعي أمام الآخرين. كلا العالمين له قيمته، غير أن الخطر يبدأ حين يطغى الثاني على الأول، وحين تتحول القراءة من وسيلةٍ للبناء الداخلي إلى وسيلةٍ للظهور.

القراءة التي تُنتج إنسانًا أعمق لا تحتاج جمهورًا، بل تحتاج سكونًا. أن يقرأ المرء لنفسه أولًا، لأن الغاية ليست أن يُرى وهو يقرأ، بل أن يتغير لأنه قرأ. وعندما تتحول المنصات إلى غايةٍ في ذاتها، تصبح القراءة مجرد زينةٍ رقمية تُعلّق على جدارٍ عام، وتفقد معناها كفعلٍ من أفعال التكوين الإنساني.

الوعي بهذا التوازن هو ما يُنقذ القارئ من الذوبان في الضجيج الرقمي، ويبقي الكتاب فضاءً خاصًا للتماسك والبناء الداخلي. لأن القراءة، في جوهرها، ليست تحديًا شهريًا، ولا وسيلة لتسجيل إنجاز، بل طريقة حياة تُنمّي الإنسان في الخفاء، بعيدًا عن الأضواء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى