الاتزان الحياتي

معادلة الناشر الصعبة: أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم

أعيش يا أصدقائي كناشرٍ في صراعٍ دائمٍ بين الإيمان والجدوى. أجد نفسي أمام كتابٍ أؤمن بأنه ثمين، وعميق، ومكتوبٌ بصدقٍ، وبفكرٍ حيّ. أنظر إليه بعين القارئ فأجده جميلًا، وبعين المثقف فأراه ضروريًا، لكنّ أشعر أن حسابات السوق لن تبتسم له. تخبرني الأرقام بأن هذا الكتاب لن ينجح تجاريًا، وأنّ تفضيلات القراء تسير في طريقٍ مختلف.

ولا بدّ لي هنا أن أقرّر ما أظنه معلومًا لكم بالضرورة، من أن النشر ليس عملًا مثاليًا خالصًا، ولا مغامرةً بلا حساب. نحن الناشرين نتحرك ضمن ميزانياتٍ محدودة، نحاول أن نبقي دورنا واقفةً على قدميها في زمنٍ تتكاثر فيه الدور ثم تتلاشى سريعًا بعد أول تجربة فاشلة. أغلب دور النشر التي أعرفها ليست كياناتٍ ثرية كما يظن الناس، بل تعمل في حدود الكفاف: تبيع كتابًا لتطبع آخر، وتقتطع من أرباحها لتدفع أجور المترجمين، والمحررين، والطباعة، والتوزيع. وكل ذلك لتبقى فقط في الميدان.

ولأن النشر فعلُ إيمانٍ قبل أن يكون مهنة، فإن كل قرارٍ فيه يحمل شيئًا من المراهنة على المعنى. وسط هذا الواقع، يصبح الإيمان بالكتاب ترفًا مكلفًا. كم من كتابٍ مرّ عليّ وأنا أعلم أنه رائع، ومع ذلك لن يستعيد تكلفته حتى بعد سنوات. وكم من عملٍ فكريٍّ أصيلٍ سيبقى حبيس لغته الأصلية لأن المؤسسات غير الربحية وحدها تملك القدرة على ترجمته دون انتظار مردود.

ولعل في تجربة دار شفق أمثلة حيّة على هذا التحدي.
حين نشرنا كتاب «نرد آينشتاين وقطة شرودنجر»، فعلنا ذلك إيمانًا بمحتواه العلمي والفلسفي الفريد، ومع ذلك لم يحقق نجاحًا تجاريًا يُذكر. وكذلك الحال مع كتاب «عاصفة في كوب شاي»، وهو عملٌ ممتعٌ ورصين، يجمع بين العلم والحياة اليومية، لكنه لم يلقَ الرواج الذي يستحقه.
ثم جاء كتاب «نوافذ على العالم»، أحد أجمل ما نشرناه، وهو كتاب أدبٍ جميل يجمع مقالاتٍ وصورًا لأكثر من خمسين كاتبًا من حول العالم، يصوّرون مشهد العالم كما يطلّ عليهم من نوافذ غرفهم. كتابٌ عميق في بساطته، يتأمل الأبعاد الإنسانية والفكرية خلف كل نافذة، لكنه — رغم جماله الآسر — لم يجد حظه التجاري الذي يوازي قيمته الفنية والروحية.
وحتى في الأدب الخالص، حين نشرنا رواية «المنبوذ»، كنا ندرك أنها رواية عميقةٌ وآسرة، لكنها لم تَجد صدى عند جمهورٍ يميل إلى الأنماط الأخفّ من الروايات.

أحيانًا أشعر أن بعض الكتب التي لم تُقرأ كفاية تشبه الأصوات الجميلة التي غنّت في قاعةٍ فارغة. هذه الكتب وغيرها تجعلني أُدرك أن القيمة لا تساوي بالضرورة الرواج، وأن الجودة وحدها لا تضمن الحياة في السوق.

وفي جانبٍ آخر من المشهد، رأيت روايةً خفيفةً تذيع فجأة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتجاوز مبيعاتها كل التوقعات، وتُعاد طباعتها مرارًا خلال أشهرٍ قليلة. سألت زميلي الناشر الذي أصدرها عن سرّ هذا النجاح، فابتسم وقال إنه لا يعرف. هو نفسه لا يراها عملاً أدبيًا عميقًا، بل من نوع روايات المشاعر الطيبة (feel-good novels)؛ روايات تبعث شعورًا بالراحة والبهجة أكثر مما تثير الأسئلة أو تحفر في الأعماق.
وهذه مجردُ مثالٍ من أمثلة كثيرة لكتبٍ لا تحمل في ظاهرها الكثير، لكنها تنتشر وتصل إلى أبعادٍ غير متوقعة، كأنّ للسوق عقلًا مستقلًّا وذائقةً لا يمكن التنبؤ بها.
لا أقلّل من شأن هذا النوع من الأدب، فلكل كتابةٍ جمهورها وأثرها، لكنها تذكّرني بأن للسوق منطقه الخاص، وأن تفضيلات القراء لا تسير دائمًا في الاتجاه الذي تريده الثقافة أو الفكر أو الأدب.

إنها مفارقة موجعة، أن تدرك أن بين يديك كتابًا يستحق أن يعيش، وأنك كناشرٍ، رغم إيمانك به، قد تعجز عن منحه تلك الحياة.

ولكن مع مرور الوقت، تعلمت أن أوازن. أختار أحيانًا كتبًا أرى فيها فرصة النجاح التجاري، دون أن أنزل دون حدٍّ أدنى من المستوى الأخلاقي أو الأدبي، وأقابلها بكتبٍ أتبنّاها إيمانًا لا حسابًا. كتبٍ أعرف أنها لن تعود عليَّ بربحٍ، لكنها تُغذّي روح الدار وتُبقيها وفيّة لما تؤمن به.

بهذه الطريقة أعيش معادلتي اليومية الدقيقة كناشر: أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم.
ربما هذا ما يجعلني أؤمن أن دار النشر ليست مشروعًا تجاريًا بقدر ما هي ضميرٌ ثقافيٌّ يتنفّس عبر الكتب. فالنشر، في جوهره، ليس تجارةً فحسب، بل التزامٌ أخلاقيٌّ تجاه المعرفة، ووفاءٌ للكتاب الجيد الذي يستحق أن يرى النور، حتى إن لم يُضيء السوق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى