حتى لا نخسر الثمرة
أؤمن تماما بأن المراد الأسمى لكل إنسان في هذه الحياة، هو السعادة. أقول هذا مدركا أن البعض سيحاول النظر إلى الأمر ذاته من زوايا مختلفة، بحثا عن إجابات مختلفة، لكنني أجزم بأن كل الإجابات ستنتهي إلى الأمر ذاته، السعادة.
كل من يعمل ومن لا يعمل، من يتحرك ومن لا يتحرك، من يصحو ومن ينام، من يوالي ومن يعادي، من يستثمر ومن يوفر، من يعطي ومن يبخل، من يقود ومن يتبع، ومن ومن.. كلهم جميعا يسعون في نهاية المطاف إلى راحة البال، ثم إلى الاستقرار والسعادة في هذه الدنيا، وصولا إلى السعادة الأبدية في الدار الآخرة، إن كانوا ممن تدخل الآخرة في حساباتهم بطبيعة الحال. لكن الناس في غمرة اندفاعهم في زخم هذه الحياة السريعة المتسارعة أكثر فأكثر يوما بعد يوم، يفقدون التركيز على هذه الحقيقة البديهية، رغم بساطتها الشديدة، فيغيب عنهم النظر إليها وإلى ما يشغلهم في حياتهم طوال الوقت، وهل هو يقربهم منها حقا، أم إنه يبعدهم عنها وهم لا يشعرون؟
كنت قرأت قصة جميلة في مكان ما منذ فترة، واحتفظت بها في دفتري، وسأشارككم فيها هنا.
يحكى أن رجل أعمال كان يقضي إجازته في إحدى القرى الساحلية، وبينما هو مستلق على شاطئ البحر يستمتع بالهواء والشمس وصوت الأمواج في ضحى أحد النهارات الجميلة، وإذا بقارب صيد صغير يرسو على الساحل. ونزل صياد منه حاملا معه سلة فيها عدة أسماك كبيرة الحجم، فناداه رجل الأعمال مشيدا بجودة صيده، وسأله كم من الوقت احتجت لصيد هذه الأسماك؟ فأجابه الصياد: ليس كثيرا في الحقيقة.
فسأله رجل الأعمال: ولماذا لم تقضِ وقتا أطول لتصطاد سمكا أكثر؟ فأجاب الصياد: لقد اصطدت ما يكفي لإعالتي أنا وعائلتي. فأردف رجل الأعمال: حسنا وماذا ستفعل ببقية يومك، فأجابه الصياد: سألعب مع أطفالي قليلا، وسأقضي فترة القيلولة مع زوجتي ماريا، وفي المساء سأخرج وأصحابي لأعزف لهم الجيتار فنغني ونتسامر، ثم سأعود إلى منزلي.
هنا قال له رجل الأعمال: اسمع يا عزيزي، أنا أحمل شهادة في إدارة الأعمال وسأعطيك نصيحة عمرك؛ يجب عليك أن تقضي وقتا أطول في صيد الأسماك، وعندها ستصطاد سمكا أكثر وتبيعه، ومن الأرباح سيمكنك شراء قارب أكبر وتعين من يساعدك في العمل من الصيادين، وبعدها ستتمكن من شراء عدة قوارب ليصبح عندك أسطول لصيد الأسماك، ثم سيمكنك أن تتخلص من التاجر الوسيط الذي يشتري منك السمك الآن، فتنشئ شركتك الخاصة وتبدأ بتصنيع وتصدير منتجاتك بنفسك، وبعدها ستتمكن من ترك هذه القرية والانتقال إلى العاصمة، لتدير أعمالك التي ستكون قد نمت وكبرت جدا حينها.
هنا سأله الصياد: لكن كم سيستغرق هذا الأمر يا سيدي؟ فأجابه رجل الأعمال: من 15 إلى 20 عاما على الأكثر، فقال الصياد: ثم ماذا بعدها؟ فأجابه رجل الأعمال متحمسا: هنا سيكون الجزء الأجمل، حينها سيمكنك أن تحول شركتك إلى شركة مساهمة فتطرحها للاكتتاب العام، لتكسب من وراء ذلك ملايين الدولارات فتصبح غنيا جدا. فقال له الصياد: ثم؟ فأجاب رجل الأعمال: ثم يمكنك ترك العمل كله لمن يديره بالنيابة عنك، فتتقاعد وتجلس وتلعب مع أبنائك وتقضي الوقت بصحبة زوجتك ماريا، وتستمتع في المساء بعزف الجيتار والغناء والسمر مع أصدقائك. وهنا ابتسم الصياد، قائلا: ولكن هذا بالضبط ما أقوم بعمله الآن!
أعلم أن بعضكم سيقول إنها قصة حالمة بعض الشيء، ولعلهم مصيبون، لكن لنتجاوز ذلك ولنتمعن فيها، وسنجد أنها تعبر عن فكرة عميقة جدا. يقول ألبرتو مورافيا، الروائي الإيطالي الشهير: “إن على الإنسان ألا يكسب من المال أكثر مما يلزمه لحياة كريمة وميسورة، ذلك أن المال إذا زاد عن حده أنفق المرء عمره في إدارته، وإن قل عن الحاجة، أنفق عمره في السعي إلى كسبه، وهو في الحالتين خاسر”.
ولست هنا، بهذا الكلام، أحاول القول إن على الإنسان ألا يسعى لكسب المال، ولست أيضا أتخذ موقفا سلبيا من فكرة السعي للثراء، فتعريف الحياة الكريمة الميسورة يختلف من شخص إلى آخر ولا شك، ولكن مرادي التوقف عند حقيقة المطلب الأسمى من كل هذا السعي الدنيوي، سواء لأجل المال أو غيره، والذي قلت في بداية المقال إنه السعادة ولا شيء سواها، لهذا فمن الواجب على كل إنسان أن يتوقف عند هذه الحقيقة، فينظر ويتأمل في ما إذا كان يقوده سعيه الدؤوب المتواصل إليها أم لا.
كثير من الناس يندفعون سعيا لأجل العمل وتحقيق المشاريع وجمع المال، فتسرق منهم الأيام أجمل لحظات العمر، فيكبرون وإذا بهم لا ينتبهون إلا وقد فاتهم أن يستمتعوا حقا بحياتهم، مع من يحبون.
يا سادتي، للعمل وقته، وللسعي لأجل المال وقته، وللمشاريع وتحقيقها وقتها، لكن يجب أن لا تطغى هذه الأوقات على تلك الأوقات الأهم في الحقيقة مع أهلنا وأولادنا ومن نحب، وقبل ذلك مع أنفسنا. يجب أن لا يجعلنا هذا نخسر الثمرة من كل هذا السعي، ألا وهي السعادة الحقيقية.