سر اللذة والاستمتاع
أسترجع هذه الحكاية من ذاكرتي، فقد حصلت معي منذ عدة سنوات في واحد من شهور الصيف اللاهبة جدا عندنا، وإن لم يكن في هذا أية مفاجأة، فهكذا هي شهور الصيف في دول الخليج العربي. يومها كنت في دبي في إحدى رحلات العمل، ساكنا في فندق من تلك الفنادق الكبيرة المنتصبة على امتداد شارع الشيخ زايد. وفي مساء أحد الأيام، وأنا عائد إلى الفندق بعد يوم عمل طويل، وبعدما ولجت المصعد وضغطت زر الطابق الذي أنزل فيه، أخذ الباب بالانغلاق، وفي المسافة الأخيرة وقبل أن يغلق تماماً امتدت يد وأمسكت به، فعاد الباب مرتدا، لينفتح لدخول رجل غربي أزرق العينين أشقر الشعر أبيض السحنة مشوبا باحمرار واضح. قدَّرت أنه في أواخر الخمسينيات من عمره. حيَّاني، كعادة الغربيين، بإيماءة صامتة، فلم أتركه حتى يكون أحسن مني، فرددت عليه التحية بأحسن منها وأضفت على الإيماءة ابتسامة.
كان يرتدي قميصاً بلله العرق بشكل واضح، ويضع على ظهره حقيبة من تلك الحقائب التي لها الكثير من الجيوب والعلاّقات وتستخدم في الرحلات، محيطا خصره بحزام تعلقت به حقيبة صغيرة من ذلك النوع الذي يستخدم لحفظ الأشياء الثمينة قريباً من متناول اليد. وكان بادياً على الرجل أنه قد بذل مجهوداً كبيرا، حتى تخيلت أنني أسمع صوت دقات قلبه وجريان الدم في عروقه ينتقل عبر حديد جدران المصعد.
وقعت عيني إلى الأسفل على حذائه الرياضي، فلاحظت أنه كان مغبراً، فأدركت الحكاية.
كان صاحبنا واحداً من آلاف الغربيين الذين يجدون متعة جمة في المجيء إلى هذا الجزء من العالم في أشهر الصيف بالذات للسياحة، وبالأخص إلى دبي، حيث وجدوا فيها مَن قام بتحويل الشمس والحر والرطوبة إلى سلع سياحية جاذبة وممتعة لهم. من غرائب هؤلاء الغربيين، وهي كثيرة ولكن ليس هذا مجال الحديث عنها، أنهم يعشقون الذهاب إلى الصحراء في خليجنا، حيث الحرارة التي خلفتها الشمس تذيب الحديد وتصدع الصخر، لممارسة متعة التنزه فوق الكثبان الرملية لساعات متطاولة، ليعودوا بعدها إلى حيث يسكنون وقد لوحت الحرارة وجوههم وأحرق الهواء اللاهب أبشارهم، ونال منهم التعب كل منال، لكنه تركهم مع ذلك يشعرون بسعادة غامرة!
هذا المشهد الذي صادفته سريعا في ذلك المصعد، جعلني يومها أتساءل: أليس غريبا أن يجد هؤلاء الناس متعة في ذات الشيء الذي نهرب نحن الخليجيين منه، متى ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، فنشد الرحال إلى بلدانهم الباردة، إلى ذات الأماكن والأشياء التي هربوا منها؟!
ألا يدل هذا على أن لمسألة الاستمتاع برمتها سراً، وأن هذا السر لا يكمن في مفردات الشيء المحسوس، أو تفاصيل المكان الملموس؟
الآلاف منا نحن الخليجيين، يشدون الرحال إلى أوروبا في الموعد نفسه سنوياً، فينحصرون في عدة مناطق وشوارع بعينها. لماذا؟ هل لأن هذه المناطق والشوارع ممتعة بذاتها حقاً وأن فيها ما ليس في غيرها؟ بالطبع لا، وإلا لما فر منها كثير من أهلها وأصحابها بعيدا عنها كلما وجدوا أيضا فرصة لذلك، بل ولما جاءوا، في الاتجاه المعاكس، إلى صيفنا اللاهب وصحرائنا القاحلة.
السر يكمن يا سادتي، في أن عقل الإنسان هو الذي يقوم ببرمجة مقدار اللذة والاستمتاع في الأشياء التي تحيط به والأمور التي يمارسها، بناء على دلالاتها ومعانيها التي استخلصها، وفقا للظروف والمعطيات الفكرية والنفسية. وما دام الأمر كذلك، وما دامت المسألة عقلية نفسية محضة في حقيقتها، فيمكن لنا أن نستنتج دون تردد، أن الإنسان قادر على أن يبرمج عقله إلى حد كبير على ما يريد، بقليل من التدرب على هذا الأمر، بل وحتى أن يعيد برمجة نفسه لتغيير أفكاره ونظرته نحو الأمور التي كان يظن أنها ثوابت لا يمكن أن تتزحزح.
ما أريد الوصول إليه من هذا كله، هو أننا جميعاً نستطيع أن نجد المتعة واللذة، وأن نتحصل عليها، في الكثير من الأشياء والممارسات من حولنا، حتى البسيطة منها، وأننا لسنا بالضرورة بحاجة حتى إلى إنفاق الكثير من المال لأجل ذلك، أو حتى تجشم العناء أو شد الرحال للبحث عنها.
كل ما نحن بحاجة إليه هو العمل، برغبة صادقة، على إعادة اكتشاف الحياة من حولنا، وحينئذ ستقع أعيننا وقلوبنا على مصادر السعادة والبهجة، لنسارع الى الإمساك بها والتقاطها، فيعود الإشراق إلى الحياة مجدداً، بعدما أضحت باهتة رتيبة.
ليست هذه دعوة للكف عن السفر إلى الخارج للسياحة، بطبيعة الحال، وإنما هي دعوة لإعادة اكتشاف الحياة بعين مختلفة، وبصدر أكثر رحابة، وبعقل أكثر تفتحا، ولنتذكر دوما أن السعادة اختيار، وبيد الإنسان أن يختار الحصول عليها، أو أن يستسلم للرتابة والروتين ولكلام الناس ونمطيتهم وأفكارهم المقولبة، ولضغوطات حياته اليومية، فيجد نفسه وقد انتهى مخنوقاً تحت هذا الركام الكثيف، حي ولكن أشبه بالأموات!