
بحلول عام 1981، كنت قد قرأت ما يزيد على ست قصص للكاتب جين وولف، بين روايات قصيرة و”نوفيلا” متناثرة في مختارات الخيال العلمي التي عثرت عليها في مكتبات مانشستر. كان ذلك كافيًا لأدرك أنني أمام كاتب من طراز مختلف، شديد الجدية والاعتناء بالبناء السردي، لكن ليس بالقدر الذي يدفعني للتركيز عليه وحده. أكثر ما اقتربت منه حينذاك كان كتابه «الرأس الخامس لسيربيروس» (The Fifth Head of Cerberus) الفائز بجائزة «نيبولا»؛ وقد صاغه وولف كعمل مركّب عبر جمع ثلاث قصص متوسطة الطول تدور في العالم ذاته. استعرت الكتاب مرتين أو ثلاثًا، لكنني لم أستطع تجاوز سوى صفحات قليلة من القصة الثانية، التي بدت مختلفة تمامًا في مزاجها ومسارها.
تغيّر كل شيء في اليوم الذي صادفت فيه إعلانًا في صحيفة «الغارديان» (The Guardian) عن كتاب جديد لوولف، إصدار ورقي بعنوان «ظل الجلاد» (The Shadow of the Torturer). كان الغلاف مذهلًا، يحمل طابعًا قوطيًا صارخًا بريشة الرسّام بروس بينينغتون (Bruce Pennington)، وتتصدره عبارة ثناء من أورسولا لو غين (Ursula Le Guin). كنت قد بدأت آنذاك أتحفّظ من التوصيات الترويجية، لكن ثقتي بلو غين بقيت راسخة حتى رحيلها. اشتريت الكتاب في الحال، وكان ذلك من أفضل القرارات التي اتخذتها قارئًا.
كنت أعرف سابقًا بنية الثلاثيات، لكن هذه كانت المرة الأولى التي أواجه فيها رباعية روائية؛ الفكرة نفسها، ولكن بأربعة أجزاء بدل ثلاثة. توالى صدور الأجزاء اللاحقة عامًا بعد عام، بعناوين متوازية وغلافين آخرين لبينينغتون. وحين وصل وولف إلى مانشستر للترويج للجزء الأخير، حملت نسختي ووقّعها بخط بطيء متأنٍّ، يشبه إيقاع كتبه.
بعد سنوات، أُعيد إصدار الأعمال في طبعات ورقية جديدة، متشابهة الطابع، ذات تصميم «حداثي» مبتذل لا يليق بالسلسلة، ثم بات من المعتاد العثور عليها مجمّعة في مجلدين، كل منهما يضم جزأين. أملك نسخة ضخمة تجمع الأجزاء الأربعة تحت عنوان «سيفيريان من النقابة» (Severian of the Guild)، ثم اقتنيت لاحقًا المجموعة الأصلية الكاملة بطبعاتها الصلبة وأغلفتها التي رسمها بينينغتون.
«كتاب الشمس الجديدة» (The Book of the New Sun)—الاسم الجامع للرباعية—هو العمل الوحيد الذي قارب عندي عدد مرات قراءة «سيد الخواتم»، وربما تجاوزه. في كل قراءة أكتشف دلالات جديدة، روابط خفية، وألغازًا سردية لم أنتبه لها من قبل. وولف هنا ليس مجرد روائي بارع؛ إنه معمار لغوي وفكري. كل صفحة لغز محكم، وكل جملة تنطوي على أكثر مما تعلن. ما يبدو بسيطًا ليس كذلك، وما يظهر مباشرًا يستبطن متاهة من الإحالات. ظهور شخصية بلا اسم، مثلًا، ليس تفصيلًا عابرًا؛ بل خيطٌ يمتد إلى موضع آخر من النص، وربما تحت اسم آخر. وفي نهاية الرحلة—بعد نحو 1200 صفحة—ينطق الراوي سيفيريان بجملة تقلب معنى السلسلة بأكملها، وتدفعك دفعًا إلى العودة للصفحة الأولى، محمّلًا بمفتاح جديد يعيد تشكيل كل ما قرأته سابقًا.
هل تستفزك هذه البنية السردية؟ إن كانت تربكك أو تثير الضيق، فابتعد عن هذه الرواية—لا تشتريها، لا تستعرها، ولا تقترب منها. هذا عمل لا يمنح قارئه شيئًا بلا مجهود.
تجري الأحداث في مستقبل لا يمكن للعقل أن يتصوره. غادر الإنسان كوكب الأرض—أو «أورث» (Urth) كما أصبحت تُسمّى—وأقام إمبراطورية مجرّية عملاقة، ثم انهارت تلك الإمبراطورية، وتضاءل شأن الكوكب حتى غرق في شحوب شمس تحتضر، اخترقها ثقب أسود دقيق، تتعاقب فيها نهارات معتمة وليالٍ خضراء يعكس ضوءها قمر مكسو بالغابات. تكاد تشعر، وأنت تقرأ، أن التراث الكامل للخيال العلمي قد صُبَّ في خلفية هذا العالم ليكون شرطًا لوجوده.
الراوي سيفيريان، متدرّب في نقابة «الباحثين عن الحقيقة والتوبة»—ويُطلق عليهم عامة الناس «الجلادون»—يتيم مثل سائر المنضمّين للنقابة. يمتلك ذاكرة تصويرية—أو هكذا يزعم—قادرة على عزله عن اللحظة الراهنة إذا غاص فيها. لكنه لا يفهم دائمًا ما يتذكره، ويخطئ في تفسير الأسرار، والأسوأ أنه يكذب كلما رأى إلى الكذب مدخلًا وظيفيًا في السرد.
يحكي «كتاب الشمس الجديدة» كيف يتحول هذا الجلاد المغمور، الذي يُسمح له بمغادرة النقابة بدل طرده بعد خيانته لها، إلى منفّذ أحكام، ثم ينتهي على عرش الأوتارك (Autarch)—حاكم الكومنولث—قبل أن يُرسل إلى كون آخر، ممثلًا عن أورث، ليُختبر في ما إذا كان وقت إشعال الشمس قد حان من جديد. إنها رحلة طويلة، آسرة، متخمة بالمجاز والرمز. نثر وولف دقيق، مزخرف، مشحون بالمعاني، وخياله لا ينفد. وبين السطور—لمن يحسن الالتفات—كتاب آخر مستتر لا يُمنح إلا لمن يستحقه. وأنا لم أظفر إلا بكسور صغيرة منه حتى الآن.
وتحت ضغط المحررين، كتب وولف جزءًا إضافيًا يُكمل الرباعية بسلاسة تجعل المرء يظنه مخطَّطًا منذ البدء. ثم أتبع ذلك بسلسلتي كتب أخريين في العالم ذاته—إحداهما من أربعة مجلدات والأخرى من ثلاثة—لتتكون «الدورة الشمسية» (Solar Cycle) غير الرسمية، ذات الإثني عشر مجلدًا. ويرى بعض القرّاء أن «الرأس الخامس لسيربيروس» مقدمة ضمنية لهذه الدورة. ولا يفوتني هنا ملاحظة التطابق الأسلوبي بين «شمس جديدة»، و«شمس طويلة»، و«شمس قصيرة»—وهو الترتيب ذاته للقصص الثلاث الأصلية التي بُني عليها كتاب سيربيروس.
وبطريقتي المعتادة في الميل إلى ما يقع خارج الذائقة السائدة، يسعدني أن أجد «كتاب الشمس الجديدة» في كل استطلاع للرواية التخيلية لا يتفوق عليه سوى تولكين وحده.
رابط المقال الأصلي




