أدبكتابةكتبنشر

هندسة الالتزام الإبداعي: ماذا يحدث عندما تجرّب روتين ستيفن كينج في الكتابة؟

في عالم الكتابة، يوجد معسكران لا ثالث لهما: من ينتظرون “الإلهام” ليحطّ على رؤوسهم كالحمامة، وأولئك الذين يعتبرون الكتابة وظيفة يومية كأي وظيفة أخرى. ستيفن كينج، الروائي الأميركي الشهير صاحب أكثر من ستين رواية، ينتمي للمعسكر الثاني بشكل صارخ. فلسفته بسيطة وصادمة في آن: “الكتابة ليست سحرًا، بل عمل”. لكن هل هذه الفلسفة قابلة للتطبيق فعلًا؟ هل يمكن لكاتب عادي أن يحاكي روتين أحد أكثر الروائيين إنتاجية في التاريخ؟

في كتابه الشهير On Writing (عن الكتابة)، كشف ستيفن كينج عن روتينه اليومي دون مجاملات أو تجميل. الروتين صارم إلى درجة تثير الدهشة: ستة صفحات يوميًا، أو حوالي ألفي كلمة، هدف رقمي غير قابل للتفاوض. لا توقف قبل إنجاز هذا العدد، حتى لو استغرق الأمر طوال النهار، وإن كان كينج عادة ينتهي قبل الظهر. يكتب في الصباح الباكر، حين يكون عقله في أوج نشاطه والعالم لم يتدخل بعد بمشاغله، ثلاث إلى أربع ساعات من التركيز المطلق. يجلس في مكتبه ويغلق الباب، حرفيًا ومجازيًا، ليرسل رسالة واضحة للعالم ولنفسه: هذا وقت العمل، وليس وقت المقاطعات. يستمع إلى موسيقى الروك أو الميتال بصوت عالٍ، لا لأنه يحبها فحسب، بل لأنها تعزله عن ضوضاء العالم وتدخله في ما يسمى بحالة Flow “التدفق” التي يحتاجها الكاتب، وكل مبدع، للغوص العميق. وفي ذروة إنتاجيته، كان يفعل ذلك كل يوم، حتى في العطلات والأعياد، وذلك اتباعا لمنطق بسيط: العضلة تضمر إن لم تتمرن يوميًا، والعقل الكاتب كذلك.

عندما تطبّق هذا الروتين على أرض الواقع، أول ما سيصدمك هو الكم الهائل من الكلمات الذي تنتجه عندما تجبر نفسك على الكتابة يوميًا. ألفا كلمة يوميًا تعني ستين ألف كلمة في شهر واحد، وهي مسودة رواية قصيرة، ومئة وثمانين ألف كلمة في ثلاثة أشهر، أي روايتان كاملتان. المعادلة الرياضية وحدها كافية لإسقاط الأسطورة الشائعة “ليس لديّ وقت للكتابة”. لكن الأهم من الكم هو كسر “حبسة الكاتب” الشهيرة. عندما تلتزم بكتابة ألفي كلمة مهما حدث، لا يعود أمام عقلك خيار سوى أن يتعاون. الصفحة البيضاء تتحول من عدو مرعب إلى مساحة عمل عادية، والكتابة تصبح فعلًا يوميًا كتنظيف الأسنان أو إعداد القهوة.

لكن الثمن باهظ في الحقيقة، فأربع ساعات من التركيز المتواصل ستستنزف طاقتك العقلية بالكامل. بعد الانتهاء من الكتابة، ستشعر كأنك خرجت من ماراثون فكري، وستقضي بقية اليوم في وضع “الطيار الآلي”.

هناك أيضاً سؤال الجودة الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل الضغط لإنتاج ألفي كلمة يوميًا يؤثر على جودة ما تكتب؟ الإجابة معقدة. المسودة الأولى ستكون فوضوية بطبيعة الحال، ركيكة أحيانًا، مليئة بالحشو والتكرار غالبًا. لكن فلسفة كينج تقول: “اكتب والباب مغلق، عدّل والباب مفتوح”. الهدف إذن ليس الكمال في المسودة الأولى، بل توليد المادة الخام التي ستنحتها وتصقلها لاحقًا. كينج نفسه يعترف بأن مسوداته الأولى “سيئة دائمًا”، لكن التزامه بإنتاجها يوميًا يخلق كتلة حيوية من المادة قابلة للنحت والتشكيل والصقل. المشكلة أن الكثير من الكتّاب يركزون على مرحلة الكتابة ويهمّشون مرحلة التحرير، التي قد تستغرق ضعف الوقت وتتطلب مهارات مختلفة تمامًا.

والآن دعونا نكون صادقين: روتين ستيفن كينج ليس “نصيحة لطيفة” يمكن تطبيقها بسهولة. إنه نظام تدريب عسكري للعقل، وله شروط قاسية، فمن ذا الذي يملك رفاهية أربع ساعات متواصلة كل صباح دون مقاطعات؟ كينج نفسه اعترف أنه في بداياته كان يكتب في أوقات متقطعة بين وظيفته كمدرس ورعاية أطفاله. الروتين الذي نتحدث عنه أتى من مرحلة لاحقة، عندما أصبحت الكتابة مصدر دخله الوحيد وتفرّغ لها تمامًا. ثم إن ليس الجميع يملكون غرفة بباب يُغلق. الكثير من الكتّاب يعملون على طاولة المطبخ، أو في مقهى مزدحم، أو في زاوية من غرفة مشتركة. حتى الموسيقى الصاخبة التي يعتمد عليها كينج قد تكون كابوسًا لكتّاب آخرين يحتاجون الصمت التام، أو يفضلون موسيقى كلاسيكية هادئة.

هناك أيضًا مسألة النمط الإبداعي. كينج من نوع الكتّاب الذين يكتبون “بالبديهة”، أي يبدأ الكتابة دون تخطيط مسبق ويكتشف القصة أثناء سيرها، كمن يقود سيارة في الليل لا يرى سوى ما تضيئه المصابيح الأمامية. لكن هناك كتّابًا آخرين يحتاجون أسابيع أو أشهرًا من التخطيط والبحث قبل كتابة كلمة واحدة، حيث يرسمون خرائط تفصيلية لشخصياتهم وأحداثهم قبل أن يبدأوا. الروتين الصارم القائم على الإنتاج اليومي قد لا يناسب هذا النوع من الكتّاب، الذين يحتاجون فترات طويلة من التأمل الصامت والتفكير العميق قبل أن يجلسوا للكتابة.

رغم كل هذه التحديات، هناك مبادئ في روتين كينج قابلة للسرقة، أو لنقل المحاكاة، والتكييف. الاستمرارية، مثلًا، أهم بكثير من الكم. لا يشترط أن تكتب ألفي كلمة، يمكنك البدء بخمسمئة، أو حتى مئتين. المهم أن تكتب كل يوم. الانتظام يدرّب عقلك على الدخول في حالة الكتابة بسرعة، دون الحاجة لطقوس تحفيزية معقدة أو انتظار “المزاج المناسب”. العقل كالعضلة، كلما استخدمته في وقت محدد ولغرض محدد، أصبح أكثر استجابة وكفاءة.

المبدأ الثاني القابل للسرقة أو المحاكاة هو الفصل التام بين الكتابة والتحرير. أكبر خطأ يرتكبه الكتّاب المبتدئون هو التوقف كل بضع جمل لتصحيح ما كتبوه، يعيدون قراءة الفقرة السابقة، يشطبون كلمة ويستبدلونها بأخرى، يعيدون صياغة جملة لم تعجبهم. هذا يقتل الزخم ويحوّل الكتابة إلى عملية مؤلمة ومتقطعة. كينج يقول: اكتب المسودة الأولى بأسرع ما يمكن، حتى لو كانت سيئة. دع الكلمات تتدفق دون رقيب داخلي. التحرير مرحلة منفصلة تمامًا، تأتي لاحقًا، بعقلية مختلفة وأدوات مختلفة.

المبدأ الثالث هو خلق طقس خاص بك. الباب المغلق والموسيقى الصاخبة هي طقوس كينج، لكنك تحتاج طقسًا يناسب حياتك وشخصيتك: فنجان شاي أو قهوة يُحضّر بطريقة معينة، مكان محدد تجلس فيه، قائمة موسيقية تستمع لها، أو حتى شمعة معطرة تشعلها قبل الكتابة. الطقس يرسل إشارة واضحة لعقلك الباطن: “الآن وقت الكتابة، لا وقت التصفح العشوائي أو التسويف”. مع الوقت، يصبح الطقس محفزًا آليًا، بمجرد أن تبدأه يدخل عقلك في وضع الكتابة تلقائيًا.

والمبدأ الرابع، وهو الأهم ربما، هو حماية وقت الكتابة كموعد مقدس. سواء كان ساعة واحدة أو أربع ساعات، تعامل معه كموعد لا يُلغى، كزيارة طبيب أو اجتماع عمل حاسم. العالم يمكنه الانتظار. الرسائل يمكن الرد عليها لاحقاً. المكالمات يمكن تأجيلها. لكن وقت الكتابة محمي بسور عالٍ، لا يُخترق إلا للضرورات القصوى. هذه ليست أنانية، بل احترافية. الكاتب الذي لا يحترم وقته لن يحترمه أحد.

في النهاية، روتين ستيفن كينج ليس سهلًا، لكنه ينجح. ليس لأنه يحوّلك إلى عبقري مبدع بين ليلة وضحاها، بل لأنه يزيل القداسة الزائفة عن الكتابة. الكتابة ليست فنًا غامضًا يتطلب “حالة نفسية خاصة” أو “توقيتًا مناسبًا” أو “إلهامًا غرائبيًا”. الكتابة عمل، مثل النجارة أو الجراحة، كلما مارستها أكثر أصبحت أفضل فيها. بيكاسو قال مرة: “الإلهام موجود، لكن يجب أن يجدك وأنت تعمل”. كينج يقول الشيء نفسه بطريقة أخرى: “لا تنتظر المزاج المناسب. اجلس، افتح الملف، واكتب”. السؤال ليس هل ستكتب ألفي كلمة غدًا، بل هل ستكتب أصلًا. هذا هو السؤال الوحيد الذي يهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى