أدبالاتزان الحياتيرحلاتفكريفلسفةفن

حوار مع صورة: خطوط الزمن على وجه عازف برشلونة

منذ أعوام، التقطتُ هذه الصورة في أحد شوارع برشلونة. كان الرجل يعزف على أكورديونه العتيق، جالسًا على كرسي صغير، كأنه يعزف على أطراف الحياة نفسها. احتفظتُ بالصورة في هاتفي، ونسيتها، ثم عدت إليها بعد سنوات طويلة، فبدت لي قد تغيرت. أو ربما كنتُ أنا من تغيّر.

صورة عازف الاكورديون
صورة معدلة بالذكاء الاصطناعي عن صورة التقطتها

في ملامحه شيء من الآلة التي بين يديه. وجهه، مثل أكورديونه، محفور بالزمن. التجاعيد على بشرته تقابلها الخدوش على المعدن الباهت. كلاهما عاشا طويلاً تحت الشمس والمطر، في شوارع المدن التي لا تحفظ الأسماء. لم يكن الأكورديون آلة عزف، بل رفيقًا شاركه الصمت والجوع والذكريات. كل نغمة يخرجها منه كانت تبدو كأنها محاولة لاستدعاء ما تبقّى من كرامة الإنسان حين يشيخ العالم من حوله.

نحن نتصوّر الفنانين على المسارح، تحت الأضواء، بين تصفيق الجمهور وكاميرات الإعلام. لكن هذا الرجل كان يعزف على الرصيف، لجمهورٍ عابرٍ قد يلقي له عملة، أو يمر دون التفاتة. هنا، في هذا الصمت المزدحم، يتجلّى جوهر الفن: أن تعطي ما تملك دون وعدٍ بالمقابل، وأن تظل مخلصًا لما في داخلك حتى لو لم يسمعك أحد. الموهبة وحدها لا تضمن الكرامة، والواقع كثيرًا ما يكون أقسى من اللحن.

أتساءل الآن: أين هو؟ هل ما زال يعزف في الزاوية نفسها من شارع برشلونة؟ أم غادر إلى مدينة أخرى، أم غادر الحياة نفسها؟ لم أتحدث معه يومها، كانت بيننا إيماءة عابرة ثم رحلت. لكن الغريب أن تفاصيل مئات الصور من رحلتي تلك اختفت من ذاكرتي، وبقي وجهه وحده، كما لو أنه أصرّ على البقاء شاهداً على شيءٍ لم أكن أفهمه بعد، ولا أدري إن فهمته تمامًا اليوم.

الصورة نفسها حتمًا لم تتغيّر، لكن عيني تغيّرت. كلما نظرت إليها أجد فيها حكاية أخرى، سؤالاً جديداً، ظلًّا آخر للمعنى. لم تعد تحكي عنه فقط، بل عني أنا. عن كيف صرت أرى البشر والفن والزمن. ربما هذا هو جوهر الصورة الحقيقية: أن تواصل الحديث بعد أن يصمت كل شيء.

ذلك الرجل لم يكن مجرد عازف شوارع، بل معلّم صامت في درس الصدق الفني. لقد علمني أن الفن ليس وسيلة ليصبح الفنان مشهورًا، بل طريقة ليبقى على قيد نفسه. وأن أعظم الصور ليست تلك التي تخلّد اللحظة، بل التي تظلّ قادرة على أن تغيّرنا كلّما عدنا إليها.

الصورة الأصلية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى